هيثم حسين

معروف عن الرواية اليابانية اتجاهها إلى مقاطع عادية ومهملة من الحياة اليومية، ومنها تستنبط حكما وأفكارا مبهرة عن الواقع والوجود والعلاقات والمشاعر وغير ذلك من الرؤى الوجودية، وهو ما نجده في روايات الياباني دوريان سوكيغاوا الذي يقتحم ببراعة أكثر العوالم هامشية وأكثرها بساطة ليخلق من شخصياته البسيطة تقاطعات وحكايات تعيد طرح تساؤلات بديهية حول الحياة والواقع والأمكنة والأزمنة.

يصور الروائي الياباني دوريان سوكيغاوا في روايته “ملذات طوكيو” بطريقة شاعرية صورا من الحب والعطف والصمود وتجلياتها وتجسيداتها من خلال أبطاله الذين يخوضون مغامراتهم الحياتية في المدينة المزدحمة.

يحكي سوكيغاوا في روايته، الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، بترجمة حسين عمر، عن التحولات التي تمر بها شخصية سينتارو صاحب متجر دوراهارو لبيع الفطائر، وكيف تتغير حالته بعد أن تطلب منه امرأة عجوز أن تعمل لديه، وتعدّ خلطتها المميزة التي يستفيد منها في تحسين عمله. وتراه يصف المكان بدقة، حيث يقع المتجر الذي يقع في نهاية طريق محاذ لسكة الحديد، في شارع تجاري معروف يتميز بأشجار الكرز التي تتناثر ثمارها على جنباته.

يشير الراوي إلى أنه حين طلبت المرأة العجوز توكي يوشي من سينتارو العمل لديه، وبعد أن عرف منها أن عمرها ستة وسبعين عاما، فكر في انتقاء كلماته وهو يحرك ملعقة المزج التي كان يستعملها، ويتساءل في نفسه كيف يمكنه أن يصرفها من دون أن يجرحها أو يحرجها، وتذرع بعدم دفعه أجورا جيدة، لأن ظروفه غير مناسبة، ويتفاجأ حين تخبره المرأة بأنها ستقبل بنصف المبلغ.

قوة العاطفة

البشر يولدون لينظروا إلى هذا العالم ويصغوا إليه بعناية وتمعّن فلكل شيء معنى ومغزى ورسالة في الوجود
البشر يولدون لينظروا إلى هذا العالم ويصغوا إليه بعناية وتمعّن فلكل شيء معنى ومغزى ورسالة في الوجود

يتناول الروائي واقع اعتياد المكان على الالتزام بقاعدة معمول بها في إعداد خلطات الفطائر، وهي استعمال حشوة الفاصولياء الاصطناعية، وكان المورّد الذي يتعامل مع المتجر يسلم سطولا بلاستيكية معبأة بخمسة كيلوغرامات من الحشوة الصينية الصنع، وكان المتجر يواصل العمل بصعوبة من دون أن يتعرض لخسائر كبيرة وبالتالي تفادي الإفلاس، ولكن أيضا من دون أن يجتذب الكثير من الزبائن.

يقول إنه لم يسبق للمتجر أن روّج كامل محتوى السطل من الحشوة في اليوم الواحد، وكان باستمرار يبقى جزء من الحشوة لليوم التالي، وبذلك كانت الحشوة المحفوظة في الثلاجة تضاف إلى ما تبقى من الحشوة في صبيحة اليوم التالي، وكان سينتارو بعد خلط الحشوة القديمة مع الجديدة، ينهمك في العمل على إعداد عجينة الفطائر، وكان بعض المورّدين يزودونه بالعجينة أيضا، ولكنه كان يفضل إعدادها بنفسه لأنها غالية.

حاول سينتارو أن يماطل توكي يوشي بالعمل، لكنها كانت عنيدة، ووصفت حشوة الفطائر التي يعدها بأنها عديمة الروح، وكان توصيفها صادما لسينتارو الذي كان يظن أن لا أحد سيكشفه، ولاسيما أنه لم يصارحه أحد بأن العجينة التي يعدها عديمة الطعم.

ذهل سينتارو حين أخبرته توكي أنها تعدّ الفطائر منذ خمسين عاما، وأن كل شيء يكمن في العاطفة، وأعطته علبة تحوي على فطائر من صنعها، لكنه كابر ورمى العلبة في سلة القمامة بعد مغادرتها، غير أن فضوله دفعه إلى إخراجها لاحقا وتذوقها، وكان مذهولا من تميزها وسحرها، فقرر أن يستعين بتوكي للعمل عنده لتحسين دخله.

يصف الكاتب حال بطله وهو حائر يتقلب في فراشه بانتظار الساعة التي تبدأ فيها العجوز عملها، وطريقة استقبال الزبائن المتخيلة لها، وما إذا كانت ستتسبب في جلب المزيد من القلاقل عليه، أو أنها ستخفف عنه أعباء العمل وتساهم في إنجاحه.

يصف العجوز وهي تعمل، حيث كانت تمسك بين يديها المعطوبتين الملعقة الخشبية، وهي غارقة في التأمل، وينظر إليها سينتارو خلسة متسائلا ما إذا كان عليه أن يظهر حماستها نفسها لكونه يعمل معها، وكان مجرد التفكير يثبط عزيمته ويحبطه، ومع ذلك انتهى الأمر به إلى الاستسلام للانبهار بمنظر الحشوة في القدر النحاسي.

كان الفرق في المهارة بينهما صارخا، ولم يكن بوسعه سوى أن يرضخ لتلك الحقيقة. وبدأت توكي بتلقينه بعض الدروس كي يتقن إعداد القطر الذي يعطي المذاق الحلو للفطائر، ويمنحها الخصوصية. كانت تمطره بوابل من التعليمات والتوجيهات التفصيلية، وجبين سينتارو وعنقه يتصببان عرقا، وهو يقول في نفسه إنها محقة في تعليماتها وأوامرها.

تذكر له أنه واثق من نفسه إلى درجة أنه لا يريد تلقي الملاحظات، وتستدرك أنه في مهنة صناعة الحلويات تكون التفاصيل هي الأكثر أهمية، وتسأله كيف سيتذكر كل خطوات التحضير من دون أن يدوّن أي شيء منها لديه. وتراه يقرّ لها بأن وصفتها لذيذة بشكل مدهش، إلى درجة أن العجينة المحاطة بها تفقد كل مذاقها، بل ويشعر أنها تفسد ما يبقى من الفطيرة.

سطوة التخييل

دوريان سوكيغاوا يثبت في روايته "ملذات طوكيو" أن على المرء ألا يستهين بنعمة الحياة والوجود من خلال بطل طباخ
دوريان سوكيغاوا يثبت في روايته "ملذات طوكيو" أن على المرء ألا يستهين بنعمة الحياة والوجود من خلال بطل طباخ

يلفت سوكيغاوا إلى التغيير الذي طرأ على العمل، وحيرة بطله في الإقدام على الإعلان عن التغيير من عدمه، وهل سيجرؤ على الإفصاح عن ذلك، وإمكانية أن يشكل الأمر عبئا عليه، من حيث اعترافه بعدم براعته بالحد المطلوب، وتفوّق العجوز عليه، وتعريض نفسه للملاحظات، وقد يسأله أحدهم عن الحشوة التي كان يستعملها سابقا، وأسباب عدم تحسينه لجودتها. فيقرر الاستنكاف عن الإعلان، والاكتفاء بانتظار التأثيرات تباعا.

يلزم بطل الرواية نفسه أن يقوم بالتحضير من دون أي استراحة، وهي مهمة لم يكن قد اعتاد على القيام بها، وكانت أيام العمل مضنية، كما ينبغي له أخذ التعب الجسدي في الحسبان. ويضاف إليه السخط الذي يبديه على نفسه وكذلك صراعاته وجدالاته الداخلية، وبدأ جزء منه يثور، ويتساءل إن كان يعيد الاتصال بذلك الزمن الذي كان يطمح فيه إلى أن يصبح كاتبا.

يصف شعوره بتحسن العمل، ونفاد الكمية التي يعدها بشكل سريع، لكنه دخل في مرحلة تشوش واضطراب جديدة، وهو الذي لم يكن قد اختار العمل بنفسه وبإرادته، وكان يرغب في أن يستعيد بأسرع وقت ممكن حريته، وكانت تلك أغلى أمنياته، ومع ذلك كان يشعر بالرضا كما لو أنه تجاوز المرحلة، ولكن ذلك يثير الاضطراب والتشوش في داخله، وكان يرغب في الوقت نفسه أن يحقق انتصارا مدويا ولكنه كان يشعر بأن الأمور تتعقد، ولم يعد يعلم تماما إلى أين وصلت به الحال.

يشعر بقربه من توكي، يبدأ بالبوح لها بهمومه، وأنه لم يقم بتدبير شؤون حياته دائما كما ينبغي، وكان يتقدم من دون أن يعرف كيف يتوقف، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، ومع ذلك كان يريد في السابق أن يصبح كاتبا، ولكن في النهاية أي شيء أقدم عليه لم ينجح، وأنه في كل الأحوال لا يكتب أي شيء حاليا، ويرى أن ذلك بسبب الكسل، ويأسف لأنه لم يتمكن من أن يصبح معلما محترفا في صنع الفطائر أيضا.

تغيب السيدة توكي، ويدخل سينتارو في حيرة مضاعفة، وتكون رسالتها المضمرة التي تصرح بها لصديقة مقربة منها بعد أن انفض الناس من حولها سابقا، مركزة على قوة الخيال وسطوة التخييل، والتأكيد على أن الطريقة الوحيدة لكي تحيا وهي مسجونة في سجن ما وتعيش فيه، هي أن تصبح نوعا من الشعراء والشاعرات، حيث إن النظر إلى الواقع وحده يمنح المرء الرغبة في الموت، ولكي يتجاوز المحتجز السور، كان الحل الوحيد هو العيش كما لو أنه تجاوزه فعلا.

ينقل الروائي عبرة على لسان توكي، وهي أن البشر يولدون لكي ينظروا إلى هذا العالم ويصغوا إليه، وأن هذا كل ما يطلبه العالم، وأن لكل شيء معنى ومغزى ورسالة، وعلى المرء ألّا يستهين بنعمة الحياة والوجود، وأن يسعى بجهده كله إلى الاستمتاع بهذه الاستحقاقات والهبات الرائعة، وألا يفسدها بالشكوى والتذمر واليأس.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم