أسامة غانم

       تحفر رواية  "عطش الحمائم" ( الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2013 ) لــ ابراهيم سليمان نادر عميقا في الذاكرة التاريخية الفردية بعين طفل – رجل، كونها الوسيلة التي تصِلُنا بالماضي وتعيد حكاية هذا الماضي وربطها باللحظة الراهنة بغية القاء الضوء عليهما، وكشف العلاقات الحميمية لشخوص مسحوقة تحت ثقل عجزها الخاص، وبين رغبة الانفتاح على العالم، المتّشْكل من : الآخر، المدينة / الموصل، النهر/ دجلة، معانقاً ايضاً السير ذاتية والتخييل، وعليه يجب ان تكون قرأتنا للرواية قراءة نص ذاكرة، حسب تعبير الناقدة البريطانية كيت ميتشل، بمعنى انها تشكل بفاعلية افعال الذاكرة الثقافية بدلا من كونها مجرد رواية او بديلاً منافسا لصيغة السرد التاريخي .

      وتبقى الرواية الى النهاية معتمدة وتستمد شخصياتها واحداثها من الذاكرة السير ذاتية المتكئة على الوعي الذاتي المتفتح على وعي معرفي - ثقافي، واقعة ما بين التاريخ العام والفردي، والذاكرة المكانية ، وهذا مما منح الرواية انسيابية التداخل ما بين الذاكرتين، والتلاحم في السرد، في صيغة الفعل الاسترجاعي للذاكرة، الموشومة بدهشة الطفولة، وشهقة الاكتشاف،  متحولة الى "مصدر اولي من مصادر المعرفة بالذات وبالعالم والنص السردي، ينطوي على افقين : أفق التجربة، وهو أفق يتجه نحو الماضي، وأفق التوقع، وهو الأفق المستقبلي الذي يهرّب النص السردي، بمقتضى تقاليد النوع نفسه، أحلامه وتصوراته، ويوكل للمتلقي او القارئ مهمة تأويلها " 1 .

      إن الابتداء بالكتابة عن ماضي الطفولة، هي كتابة ومفارقة عن الحاضر في الوقت نفسه، واعادة تشكيل هذا الحاضر من خلال ايجاد " اشكال ابداعية مبتكرة للإيفاء بمتطلبات علاقتنا المتغيرة دوماً مع الماضي وموضوعاته المؤثرة في الحاضر البشري " 2، وهذه العلاقة المتغيرة والمختلفة ما بين الماضي والحاضر ما يجعلها مدهشة لنا، بالإضافة الى ان ذاكرة الراوي تبقى في حالة اندهاش واكتشاف عند مواجهة الحياة، وهذا ما نشاهده منذ السطور الاولى للرواية، حينما يضع الراوي العليم/ الطفل نفسه في مواجهة دهشة اكتشف الجسد الانثوي، وهو ابن العاشرة من عمره، ورؤيته لتفاصيل جسد ام علي العرافة، الممتلئة الاطراف، وفخذيها المنتفضان بالشهوة والغواية والاغراء، المرأة التي لا ترد للسائل طلب، وذلك لأنها تقطر شبقاً:

" كنت اقهقه حينها بعد ان كشفت فعلته الشنيعة، لقد شاهدته بأم عيني قبيل دقائق من خرم الباب، يعتلي المرأة (العرافة)، ويهتز فوقها مثل بندول الساعة. كانت المرأة تتأوه من تحته، الرواية ص 13".

     إن البيوت الشرقية في الموصل، بيوت قديمة ذات فناء (حوش) واسع ومكشوف للشمس وللمطر وللريح، تكون متلاصقة الواحدة مع الأخرى بحائط واحد، مما يسهل عبور المرء وخاصة الاطفال على جميع الاسطح بكل سهولة، وتمنح هذه اللعبة المزدوجة الاطفال لذة الرؤية / الاكتشاف، بينما تمنح النسوة متعة استعراض اجسادهن المكشوفة عندما يسترق الاطفال النظر اليهن " مما يجعل النسوة الذاهلات، اكثر جوعا الى الشبق والنشوة، إلا أنه لذيذ وممتع، لذلك كن ينصرفن الى الولاويل الكاذبة، الرواية ص 15 " .

     ويبقى البطل اللامسمى (إلى نهاية الرواية لم نعرف اسمه، وهذه دلالة رمزية مقصودة من قبل الروائي ) ضائعاً، لاهثاً، بين صحراء الحلم والتساؤلات المعلقة، في الازمنة المفتوحة المتداخلة، وبالذات علاقته المشبوبة بالتيه مع العرافة، وفقدان بوصلته للوصول الى الفنارات المضيئة  " متى تعود الى رشدك وتتذوق طعم شهدي الابيض الذي يتمناه كل رجل – الرواية ص 42 " ، يبقى معاندا رغبته واشتهاه لها، وهي في ملابسها الداخلية " التي لم يذكر لونها لكي تحفز مخيلة المتلقي "، ويبقى للأخير مفتتن ومرعوب من جسد المرأة، حيث يصل به الحال الى ان يتصور بان العرافة  " ربما تتساءل هي مع نفسها الان ( من منا يسكن الآخر ؟، من منا يروي عطش الآخر ؟!) – الرواية ص 43"، العطش هنا اخذ منحى آخر، ومعنى آخر، في استعارته للارتواء، حيث جاء هنا بمعنى حاجة الجسد/ المرأة للجسد/ الرجل للتفاعل والاندماج، مثل ليلى المتمردة  " تمارس الحب مع من تريد وتهوى، مجرد إرواء عطش – الرواية ص 39 " . فمعنى العطش هنا مجازي، ولكنه يكون قريب من معناه الواقعي، فالاثنين بينهما قاسم مشترك هو الماء، وهذا ما ذهب اليه الروائي في عنوان الرواية "عطش الحمائم"، وباستطاعة المتلقي المْفّلي للنص ان يستدل على المقصود بالحمائم، فالفصول الاربعة كانت تعني كما يلي : حمامة أولى = العرافة، حمامة ثانية = ليلى، حمامة ثالثة = سمية، حمامة سابقة = السيدة الثرية، وهن الشخصيات الرئيسة في الرواية المتكونة من عشرة فصول .

      اما المرأة الأخرى التي حين يلمحها تجعله يكتشف ابجديات جديدة للعالم فهي سمية ابن الحاج احمد الحلواني، حلمه غير المكتمل، او حبه الميتافيزيقي، الرابض في هواجسه الحلمية الليلية، رغم انه اطلق عليها  " الرغبة المستحيلة – الرواية ص 51 "، او الرغبة المقموعة . ونتيجة لهذا يحول الرسائل المدفونة فيها مشاعره المضطربة الى الجريدة عوضاً عن ارسالها الى سمية  " وتبين لي انها قد مضت في الطريق الذي يجب ان تسير عليه، فتحولت عشرات الرسائل تلك الى مشاريع حكايات كانت لى الجرأة في ارسالها الى ( الجريدة ) ذاتها – الرواية ص 53 "، وبها يعلن لنفسه بانه يوما ما سيصبح قاصا مرموقاً، رغم رأي استاذ اللغة العربية بانه "عقيم وأجهل كيف تكون الكتابة الفنية – الرواية ص 52 " .  ولكن هذا الوهم يبقى ملتصقا به ولا يغادره الا بعد ان يخلف دبيب الشهوة المستعرة " اربعون عاما وانا احث الخطى خلف وهم خاطف، مر بي وغادرني الى الابد . خلف دبيب الشهوة المستعرة التي هي الموت – الرواية ص 134 "  .

    ومن خلال صديقه فوزي نتعرف على السيدة الرابعة , السيدة الثرية كما يسميها الراوي، وحكاياتها مع عشاقها، او مع الموعدين من نصيبها، فالنصيب هنا هو فرجها كما تسميه هي " – تعال وخذ نصيبك كما وعدتك، الرواية ص 61 "، وبقدرة عجيبة تصبح السيدة الثرية ملكا جنسيا لـــ فوزي الغريب في فكره وفعله ودهاء مكائده مع منحه مبالغ مجزية مقابل ذلك : " اقتربت من الباب المسدود واخذت اتلصص من ثقب الباب . كان الاحدب قد اعتلى السيدة وراح يهتز فوقها ومؤخرته المجعدة القبيحة ترتعش مثل فحل الماعز وتتراقص بصورة مضحكة كمن اصابته حمى مفاجئة، او غثيان او هلوسة . بقيت الهث مع لهاثه، لكني لم احتمل ما يجري، رفست باب الغرفة بعنف – الرواية ص 61 " .

      تجادل الناقدة كاي ميتشيل Kaye Mitchell إنّ مجموعة من الموضوعات الجنسية المكشوفة (البورنوغرافية) ذات الاهمية البالغة للحبكة في الرواية يتّم اعادة استخدامها "كتاريخ للمتعة والبهجة الانثوية عوضا عن كونها وسيلة لتشييء النساء وحصرهنّ في زاوية ضيقة وإساءة التعامل معهنّ " 3 .

ونحن نتساءل بدورنا، هل نساء ابراهيم سليمان نادر وقعن في خانة التشيى ام ماذا؟ رغم ما جاء على لسان البطل اللامسمى: (ليلى... سمية... أم علي العرافة ... السيدة الثرية). كلهن فروع لجذر اخر الا " سمية " فجذرها له صلة بالعالم السماوي، وبقية الجذور ينخر احيانا فيها الدود – الرواية ص 81 "، هذه الرؤية لمن تعود هل هي رؤية الروائي ام الراوي؟ ساترك معرفة ذلك للمتلقي! .

     ونبدأ بالتعرف على جسد المدينة الملهمة للخيال، خيال الراوي العليم و المتلقي في آن واحد، فأول ما يفتتح به الرواية هو وصفه المكاني لـ حيه وبيته " على ربوة تطل على ضفاف نهر دجلة، كان يقع حينا العتيق. بيوت قديمة جدرانها من الجص والحجر – الرواية ص 9 "، بل يصل الحال به الى ان يتغزل بقباب مسجد شيخ الشط وكنيسة مار يوسف السابحة في اشعة الشمس الغاربة وقت الغروب، ووصفه لسوق الطيور الموجود ضمن سوق الاربعاء وسط مدينة الموصل، وكلما نتوغل في قرأتنا نتوغل في جسد المدينة وازقتها المتشعبة واسواقها : سوق العطارين وسوق الشعارين وسوق النجارين، ويبقى مؤمن بان  "مدينتنا اجمل المدن"، المكحلة بذكريات اشورية ورومانية واتابكية، وجدائل اسلامية، انها الموصل الحدباء، الى حد يصل به ان تكون هويته هي هوية الموصل الزاخرة بكل الذكريات الموجعة " منذ مدة وانا اهرب من رؤية بعض الامكنة والازقة التي تواجهني بذاكرة حزينة . لقد هربت. لم اكن اريد رؤيتها كشجرة منخورة، ولا اريدها ان تعيدني الى الوراء والامام قبالتي. ستضعني في المفرق الصعب، وسأقارن وسأضيع، لأنني اخشى ان اكون بلا تراث ... بلا هوية – الرواية ص 81 "

      اما علاقته الحميمية والعميقة بعمق ذكرياته والتي تكونت منذ اول لحظة عند نزوله للعالم، فهي نهر دجلة ومدى تلاحمه معه  " كنت احس ان النهر يجري في داخلي – الرواية ص 80 "، بل هما متلازمين، متداخلين، متحدين، لا يستطيع واحدهما ان يستغني عن الآخر، حتى ضفافه تصبح  " رمزا للحب وكتم الاسرار – ص 109 "، حتى يصبح دجلة مقياسا له  " حين يكون قبالتي، اراه دائما إلها غريبا ومجنونا ومتجددا، لهذا كنت ابارك يومي بالتأمل اليه، لقد احببته بعمق كما احببت سمية  – الرواية ص 115 "، ويتعامل معه كصنو له، اي الند للند، وهو الوحيد الذي يشعره بالحياة، واموره الشخصية " انا الان في حضرة النهر، والنهر وحده يمنح معنى لوجودي، ولن اجد بالتاكيد من يسمعني الا هو وحده – الرواية ص 134 "، وهو الذي يهرب اليه من نفسه ..

    إن الكاتب يحقق ذاته ويحقق وجهة نظره ليس فقط داخل السارد، وداخل خطابه ولغته، وانما كذلك داخل موضوع المحكي، ومن وجهة نظر تختلف عن وجهة السارد. وراء محكي السارد، نقرأ محكيا ثانيا: هو محكي الكاتب الذي يسرد نفسه ما يحكيه السارد، والذي، بالإضافة الى ذلك، يرجع الى السارد نفسه " 4، وفي رواية  " عطش الحمائم "،  يكونا المحكيين متواجدين، محكي السارد ومحكي الكاتب، بل وان كل لحظة من المحكي تكون واعية واضحة على صعيدين : " صعيد السارد، وحسب منظوره الغيري، الدلالي والتعبيري، ثم على صعيد الكاتب الذي يعبر عن نفسه بطريقة منكسرة داخل ذلك المحكي " 5، بل احيانا يتداخل المحكيين، وبصعوبة نفرق بينهما :

 "يقع الحي الذي اقطن فيه على ربوة عالية تطل على نهر (دجلة) – الرواية ص 16 " .

" كل هذه الامور كانت تشفع لي وانا امارس هوايتي المحببة الى نفسي ( تربية الحمائم ) – الرواية ص 21 " .

" كنت احس ان النهر يجري في داخلي – الرواية ص 80 " .

" اشعر انني منفي داخل نفسي، منفي داخل رغبتي، منفي داخل عشقي للمدينة والنهر والحي والزقاق – الرواية ص 185 " .

     الانا هنا تجعل المتلقي يضيع ما بين " انا " الروائي و " انا " السارد، فهل هي " انا" متداخلة، مندمجة ؟، ام هي انا الروائي فقط ؟، او هي انا السارد فقط؟ عندئذ يكون المتلقي هو صاحب الرأي الاخير شئنا او ابينا، رغم تباين واختلاف وعمق المتراكمات المعرفية – الثقافية لكل متلقٍّ.

     ومما تتميز به الرواية هو كونها مليئة بالصور الحلمية المتخيلة في الحلم الليلي وفي حلم اليقظة، فالنوم "يفتحُ في الذات الحالمة نُزلاً على استقبال الاشباح، وفي كل صباح على الحالم ان يزيح  كل تلك الخيالات، والظلال السيئة بمعونة التحليل النفسي، وطرد كل وحوش الظلام، أما تأملات اليقظة وما تُنتجه من صور تُحققُ الالفة فهي – كما يرى باشلار – لا تجلب الا الراحة ،حتى وان امتزجت بالحزن، فإن ذلك الحزن هو حزنُ مريح  "جذاب " يُعطي للذات وراحة الذات نوعا من التكامل " 6 .

وتغطي الرواية للبطل اللامسمى فترة زمنية طويلة، لحد الخمسين عام، تكون على شكل تداخل الذكريات والاحلام في تطريز اليوميات الوجودية المتعاقبة لحياته ...انها رواية سيرة انسان، مقذوف في مدينة اسمها الموصل، تحتضن نهر اسمه دجلة يشطرها الى شطرين ايمن وايسر، ملتصق بها، وملتصقة به..

الهوامش والاحالات :                                          

1-      الوجود والزمان والسرد : فلسفة بول ريكور " – ترجمة وتقديم : سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء / بيروت، 1999، المقدمة ص 31 .

2-      الرواية المعاصرة :  مقدّمة قصيرة جداً – روبرت إيغلستون، ترجمة وتقديم : لطيفة الدليمي، دار المدى، بغداد، 2017، ص150 .

3-      م. ن .ص 126 .

4-      الخطاب الروائي – ميخائيل باختين، ترجمة وتقديم : د . محمد برادة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2009، ص 149 .

5-      م . ن . ص 149 .

6-      الذاكرة والمتخيل : نظرية التأويل عند غاستون باشلار – د . أحمد عويّز، دار الرافدين، بيروت 2017، ص  49 .

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم