هيثم حسين

لم تعد الرواية العربية المعاصرة على غرار نظيرتها الكلاسيكية تهتم بتقديم مواعظ أو دروس في الأخلاق والقيم للقراء، بل باتت متحررة من كل رهان أخلاقي، مركزة أكثر على تعرية الحقائق كما هي بعيدا عن أي انحياز ممكن. وهو ما نجده في رواية “أحجية إدمون عَمران المالح” مع بطلها المغربي اليهودي.

يبني الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج روايته “أحجية إدمون عَمران المالح” بصيغة تتداخل فيها عدة خيوط لعدد من المحاور، بحيث ينسج بينها روابط خفية، متجاوزا طريقة الحبكة التقليدية إلى بناء ينفلت من أي تحبيك لصالح التجريب.

ولا ينساق احجيوج  في روايته وراء الإغراق في توصيف الشخصيات وأطوارها وأحوالها، حتّى لكأنّه يحرّر الشخصيّة المحورية من حكايتها، عبر حكايات متداخلة، تغيب فيها تارة وتظهر تارة أخرى في زاوية جديدة تكمّل سابقتها، وتمهّد لكوّة جديدة في الحكاية.

المنفى والملاحقات

في الرواية، الصادرة عن دار نوفل ببيروت 2020، نجد شخصية اليهوديّ المغربيّ الذي يحلم بأرض الميعاد، والذي تحاصره الظروف في بلاده، يذعن للإيهام، ويرضخ للظروف، ظنّا منه أنّه سيتمكّن من تحقيق أحلامه، سواء بالثراء أو بالشهرة، وينجرف إلى تيار التهريب للوصول إلى تلك البلاد التي ظلّ غريبا عنها، ولم يتمكّن من التكيّف مع طباع أبناء دينه من اليهود والصهاينة، وشعر بخيبة أمل كبرى بعد تجارب مريرة يقرّر على إثرها خوض رحلة جديدة إلى منفى آخر يختاره.

كتاب يحرّر الشخصيّة المحورية من حكايتها
كتاب يحرّر الشخصيّة المحورية من حكايتها

يخوض عمران المالح، الذي يعمل مشرفا على صفحة الكتب في جريدة لوموند، صراعا ضدّ فرانز غولدشتاين، الذي يعمل محررا رئيسا في دار نشر فرنسية يعمل على رشوته ليختار رواية ويتوّجها بجائزة أدبية مرموقة.

الجملة الاستهلالية للرواية هي نفسها الجملة الختامية، مع إضافة قصيرة، حيث يقال لبطل الرواية في البداية “مرّر رواية اليوم المقدّس إلى القائمة القصيرة وستحصل فورا على شيك بعشرين ألف فرنك”. ليضيف “.. وعقد غير مسبوق لنشر روايتك الأولى”. وبين الإغراءين؛ الرشوتين، أو التهديدين، تدور حكايات المكائد والفساد والمجابهة.

المنفى الفرنسيّ الجديد يكون وجهة الناقد الذي يعيش أزماته المتعدّدة الأوجه، أزمة شخصية وأزمة هوية وأزمة اندماج وتكيّف، ويحمل غربته معه في حلّه وترحاله، ويلجأ إلى الكتابة عساه يخفّف من حدّتها وتأثيرها عليه، وهناك يلوذ بعالم الصحافة والكتابة ليعبّر عن نفسه، ويحقّق كينونته التي يصبو إليها.

لا يسلم الكاتب اليهوديّ من الضغوط، تلك المتقنّعة بأقنعة الرشى، والتي تحاول إلزامه باختيارات معيّنة يريدها الموساد، ليعمل على خلق مشاهير بحسب الطلب، ليقوم باستخدامهم لاحقا حين الحاجة، بداية من خلال تتويج أعمال بائسة لهم بجوائز معتبرة، ومن ثمّ فرضهم على الآخرين كقادة فكر ورأي.

عدم الانصياع لضغوط الاستخبارات يفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك المواجه لها، يعدّ عدّته للمجابهة، ويرفض أيّ إغراء يتعرّض له، أو أيّ تهديد مبطّن أو معلن يرسل إليه، يكتفي بتحكيم ضميره، ويستكين لسلطة الحرية التي ظلّ يرنو إليها، ويعيش تفاصيلها ولحظاتها في خياله، وعبر كتابته.

يشير إلى جانب الجرأة في رفض المغريات والتهديدات، وكيف أنّ لكلّ موقف ضريبة عليه أن يدفعها، وعليه أن يكون متصالحا مع نفسه لاختياره ذلك، من دون أن يرتكن لسلطة اليأس ولا لتسلّط مافيات الصحافة أو الجوائز، فيبدو كمن وضع خطأ في مكان ما كان يفترض أن يكون فيه، لأنّه يعطّل حركة الفساد بشكل مؤقّت، ويفسد على الفاسدين مؤامراتهم لدورة أو جولة، لكنّه لا يستطيع أن يضمن عدم تكرارها لاحقا، لأنّه يدخل مواجهة كبيرة مع أقطاب فساد كبار يفوقونه قوّة وسلطة وحضورا وتأثيرا.

لكل موقف ثمن

يشدّد الكاتب على جانب الحرّيّة الشخصية لدى الكاتب والصحافي والناقد، وواقع أنّ الرضوخ لأيّ سلطة فاسدة يخرجه عن طوره، ويجعله عبدا للمال، سواء كان يدفع له عبر دور النشر، أو من خلال مافيات تتبعها، أو تدور في فلكها، لذلك تراه يمضي إلى الحدّ الأعلى في التحدّي والصمود، ويكابر على جراحه ووضعه ويحتكم لسلطة علمه وضميره.

من دون رفع أيّ شعارات كبرى يتحدّى الناقد سلطات الفساد، يصل إلى لحظة الذروة، يفجّر مفاجأته، يقوم بتعرية مخطّطات التآمر، ويكشف أساليب المتآمرين وسلوكياتهم، يخرّب عليهم مكيدتهم، ويرفض التحوّل إلى أداة في ماكينة فساد طاحنة غادرة.

لا يسلم الكاتب اليهوديّ من الضغوط، تلك المتقنّعة بأقنعة الرشى، والتي تحاول إلزامه باختيارات معيّنة يريدها الموساد، ليعمل على خلق مشاهير بحسب الطلب

يحمل بطل الرواية جراحه النفسيّة والجسدية، بالموازاة مع أحلامه وأوهامه، يسير بها إلى عالمه المتخيّل، لائذا بالخيال ليكون منقذه وونيسه، غير نادم على ما يلاقيه من مشقّات، حاملا رسالته وشاهرا سلاح مقاومة الفاسدين والمخبرين والمافياويين، مضحّيا بأمانه وسلامه، لكن مفضّلا نقاءه ودفاعه عمّا يؤمن به.

يوقع الكاتب بطله صرع أفكاره وتخيّلاته، يبقيه نزيل مسشفى للأمراض النفسية في النهاية، يقول على لسانه، إنّ ذاكرته المشوّشة تقول إنّه معتقل في مسشفى للأمراض النفسية في الدار البيضاء، وآخر ما يتذكّره أنّه كان في فرنسا، أمّا كيف ومتى وصل إلى المغرب فهذا ما لا يدريه. يُلزم بجلسات علاج كهربائي، لمساعدته على معالجته مما يقال له بأنّها هرطقات ذهانية وهلاوس عقلية.

يقول الكاتب، الذي يقع ضحية مواقفه في النهاية، إنّه حين توقف قلبه وجد نفسه في غرفة بيضاء حبيس ذكريات وأفكار وحكايات عاشها، وإن الذاكرة فعلت فعلها وشوّهت، أو أعادت تشكيل الكثير من الحقائق التي صار عصيا فيها الفصل بين الواقع والخيال، إلى درجة أنّه ما زال يشعر بالارتباك غير قادر على فرز الحقيقة من الخيال، ومع تكراره لفكرته أنّ الفرق بين الواقع والخيال هو في المنظور ليس إلا، وإن زاوية النظر هي التي تدفعنا إلى التمييز والتصنيف، والقول إنّ هذا واقع وذاك خيال أو العكس.

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم