محمد آل قرين

 "أتوضأ نصري وأنهزم" رواية جديدة للأديب و الناقد محمد الحميدي، من منشورات دار إي كتب للنشر التي مقرها بالملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية جاءت عدد صفحاتها 198 صفحة، وهو بهذا الإصدار يكون قد أتم نشر عشرة إصدارات مطبوعة تنوعت بين النقد والشعر والسرد.

ومن خلال العنوان ستجتذبك مفاهيم عدة: الوضوء/ النصر/ الهزيمة التي هي دلالات فلسفية يعالجها الكاتب في روايته الجديدة، فعندما تكون الطهارة المعنوية المنبعثة من الوضوء على نحو ما؛ تكون الخسارة ربحا، كما أن الإطار الفكري الذي يحيط بالموقف اللغوي يمازج فلسفة "العامل على غير بصيرة الذي هو كالسائر على غير الطريق والذي لا يزيده سيره إلا ابتعادا عن المرمى الغائي."

الغلاف يشي بوقائع وعقد متشابكة فيها الكثير من الحس الدارمي والذي يكسر التابو ويتسم بالجرأة، بل حتى اختيار هذا الإيقاع اللوني والصورة المحملة بالظلال الداكنة تجعل من المتلقي يسمع سيمفونية بصرية تحف بها الرهبة من أول عتبة، ومن خلال الخطاب البصري المرسل عبر اللونين الأسود والبرتقالي وبذاتية حاضرة بقوة من خلال البعد التركيبي في ثلاث كلمات للعنوان "أتوضأ نصري وأنهزم" والمشكِّل جملتين فعليتين بفاعليها المضمرين وجوبا الذي يقدره النحويون ب "أنا" 1-الجملة الأولى: فعل + فاعل + مفعول به + مضاف أتوضأ + أنا + نصر + ياء المتكلم 2- الجملة الثانية: فعل + فاعل أنهزم + أنا و من هنا تتبين لنا وإياكم - قارئي الكريم- حرص المؤلف على الكتابة بمنظور ذاتي عبر متوالية فعلية سيتضح شيء منها في الأسطر القليلة المقبلة.

 وفي الوقت نفسه نلتفت إلى تعدد تشكيل أمكنة الرواية فعلى سبيل المثال: "أمام سوبر ماركت، الحمام والبانيو، غرفة درس الكيمياء، حلبة الصراع... " يقوم الكاتب بربط تلك الأمكنة من خلال خيط سردي رفيع آخذ في التنامي الدرامي؛ لإيقاف القارئ على تفاصيل اشتباك النوازع البشرية واصطراع قوى الغرائز (بهيمية/سبعية) والتي جعلها الحميدي مجلوة على عدة أنحاء، وعلى سبيل المثال: لوحة معركة القطط كحالة مرآوية عاكسة لتلك الغرائز.

وأما من ناحية شخوص رواية "أتوضأ نصري فأنهزم" فيجد القارئ ديالوج مبتنيا على ثنائية الضد والتقابل من ناحية، ومن ناحية أخرى يجد خطابا مبتنيا على المزج بين اليومي والتخييلي في لغة أريحية تجمع بين طاقة السرد والمضمر الإيحائي التي يتقراها تقريا من يوظف آلة الحدس عنده في تعاطيه مع هذه اللغة المستقطبة للمشاعر في أحد مستوياتها وبين المخاطبة للذهن في مستوى آخر، كالإيحاء الذي تتركه مشهدية "صورة التهام الفراغ لدوائر الدخان" ص.9 بل نجد أن حالة مشابهة لحالة من الدخول فيما يشبه الزوبعة أو فلنقل الدوامة أو على نحو آخر: المتاهة التي هي رؤيا فلسفية لرحلة الكائن البشري وما يجمعها هي التشاكل الدوراني واللامتناهي الذي يتركه العقل الهندسي في تعريف الدائرة بوصفها: "منحنى مغلق جميع نقاطه على بعد ثابت من نقطة ثابتة تسمى مركز الدائرة وتسمى المسافة بين المنحنى والنقطة الثابتة نصف قطر الدائرة" ولهذا تحضر المتاهة في الدوران والدائرة غير مرة في منطلق الرواية: - في جولة الصراع.. يركضان في شكل دائرة ص 6. - ينفث الدخان في هيأةِ دوائر. ص 9 - متى تعلمت رسم الدوائر في الهواء. ص9 - أخرج الونستون وبدأ برسم الدوائر. ص10 - بنفث دوائر أخرى غير التي التهمها الفراغ. ص 10 - استمر يراقب دوائره بنشوة. ص10 ولعل تكثيف حضور الحالة الهندسية الدائرية الممزوجة بالتلاشي المتشكل من الدخان في حيز متقارب من النص هو ما يؤكد قصدية الكاتب في خلق المتاهة المشار إليها، والتي تروي حالة الركض وراء القشور والزيف.

وعلى الصعيد الفني من حيث الدلالة اللغوية فسيميائيا وبحسب النظرية السياقية أن اللفظ رأسيا لا يكون مشوبا بصورة غائمة متعددة القراءة بل هو معنى أحادي تهبنا إياه المعجمات، بعكس ما إذا جاء ضمن سياق تركيبي ذي حمولة اجتماعية أو ثقافية ليكون وقتئذ علامة لسانية، وهنا نسلط الضوء على ملمحين من ملامح عدة توافرت عليها رواية الحميدي. والملمحان هما ما مررنا بذكره من خلال حضور اليومي والمتخيل كملمح أول، وأما الملمح الثاني: هو توظيف حركية الفعل للمبالغة في تقانة تنامي الحدث. - اليومي والمتخيل: لا نود الولوج إلى هذه الموضوعة من حيث الحقول الدلالية؛ لعدم احتمال هذا المرور السريع على العمل، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض ذلك، و ما وجدته هنا من حضور ألفاظ دالة على المعاصرة التي يعيشها الكاتب في روايته عبر شخوصها وعبر المكون الزماني للرواية فتجد ألفاظًا مثل: السجائر/ الكولا/ البنطلون /البيتزا/ طيارة/ ثلاجة/ بانيو.. وغيرها من الألفاظ الدالة على الظاهر قبالة ألفاظ أخرى دالة على الجوانية العاكسة للهواجس والأفكار والمونولوج عبر التساؤلات مثلا ومن خلال سياقات نصية دالة على زمكان النص.

مقابل هذا اليومي نجد حضورا للخطاب التراثي موظفا توظيفا ناعما غير طافٍ على مياه اللغة التي تعالج اعتلاجات النفس البشرية فيقول الحميدي: - لم يشعر من قبل بمثل هذا الهدوء النفسي.. وراء الغيب ثمة عين تحرسه. ص10 - هنالك بشارة آتية من الغيب ص 16 - في جنة سماوية ص16 ولربما كان حضور الموروث حضورا ذا مسحة إشارية عندما يقول في ص 9: "يضحكان كثيرا كثيرا جدا حتى أن الشجرة اليابسة التي مرا بها كادت تثمر".

وفي سياق مغاير تتراءى عبائر وتراكيب تحيل إلى سريالية المشهد بلغة أقرب ما تكون إلى لغة الشعر بحسب جان كوهين في كتابه بنية اللغة الشعرية، ولنأخذ على سبيل المثال: الحلم كثيمة رئيسة عند السوريالية. فنجد تعبير - راكم أحلامه. ص11 - مؤلم ابتعاد الأحلام. ص 11 - أحلامه التي آخذة في التقلص. ص 11 - أحلاما وردية. ص16 - حلما ورديا. ص16 وهنا نجد صحة التأليف بين الكلمات لم يقتضِ الخضوع لقانونينها، بحسب كوهن الذي أورد مثالين على ذلك.

الأول قول بريسون، وهو “الفيلة تجرها الخيول”. أما الثاني فلشومسكي وقوله: “الأفكار الخضراء العديمة اللون تنام بعنف”. و نجد الجملتين صحيحتين نحويا، ولكن القانون النحوي قانون شكلي. ويطرح كوهن تقسيما آخر باعتبار الصدق والكذب تخضع لكون الجملة معقولة أو لملاءمة المسند للمسند، أو منافرة المسند، وهذا ما نجده في تعاطي الحميدي مع الحلم، وليس ببعيد عن ذلك تراسل الحواس الذي يكون متجليا في قول الحميدي في روايته التي بين أيدينا: ابتسامة ناعسة. ص 16

الملمح الثاني توظيف حركية الفعل في تقانة تنمية الدراما: تأتي الجملة الفعلية متقدمة على أختها الجملة الاسمية بوصفها جملة ذات حمولة وطاقة أكثر مقدرة في بث الحيوية إبان صناعة الحدث وتفجير ظلالا وتشظيات تفضي إلى صناعة الحبكة والتأزيم والمضي صعدا في التعقيد الدرامي. وبالنظر إلى مكونات الجملة الفعلية التي عمداها المسند (الفعل) والمسند إليه(الفاعل) واتساعها بما اصطلح عليه بالمتممات التي تسند وتضاعف المعاني في ظل اتساع المتعلقات اللسانية؛ تتجلى الحركية المشحونة في فاعليتها على التراجيديا والكوميديا. وفي رواية أتوضأ نصري وأنهزم تجتذب القارئ هذه الحوارية الموغلة في الدراما، موضوعيا من خلال الكوميديا أو السخرية التي تتلبسها سوداوية في عمقها، فليس هناك إضحاك محض بل هي كوميديا سوداء التي طالما استطاعت كسر التابوهات، وكذلك من خلال البناء الفني وأداة الحوار، وهنا أشير إلى ما ذكره عبد العزيز حمودة في كتابه البناء الدرامي بعد سوقه أمثلة لمجموعة من الحوارات كمادة تطبيقية أنه ليس كل حوار حوارا دراميا، وإنما السرد الدرامي الذي يتذبذب بموجاته وتردداته بين الشد والجذب، والدفاع والهجوم هو الذي يصنع التوتر. بحسب عبد العزيز حمودة. ص. 172 وهنا أسلط الضوء على حضور الحركية الصانعة للتوتر في رواية الحميدي عبر الجملة الفعلية ولنأخذ على سبيل المثال الفقرة الثانية في ص. 6: "يسقط، يلتفت إليه، ينظران في عيني بعضهما البعض، إنها المرحلة الحاسمة، الأسنان الحادة تنغرس عميقا داخل اللحم النيء، تتدفق الدماء إلى الأعلى، وتلوث الأرضية حال نزولها، يشاهدان ما حصل، لا يتوقفان، مجنونان في ساحة معركة، إما الانتصار أو الانتصار، لا يقبلان بالهزيمة، مهما كانت!" لنجد أنها مكونة من( 13) ثلاث عشرة جملة، جاءت (10)عشر منها جملا فعلية مقابل (3) ثلاث جمل اسمية، م نوع الجملة العدد الإجمالي النسبة المؤية 1 الاسمية 3 13 23.07 2. الفعلية 10 13 76.92 وهكذا تتوالى أفعالها مما يبعث إحساس التوتر و التوالي في نفس القارئ ولربما كانت الجملة الفعلية حاضرة عبر فعلها فقط وكان فاعلها مضمرا، وهذا اللون من بناء الجملة هو الطاغي.

وإذا انتقلنا إلى الصفحة التي تليها ص. 7 ولنأخذ الفقرة الأولى: "ينطلقان بحركة سريعة، ويصطدمان ببعض، يتشوهان، فالمخالب المدببة عادت لتنغرس في الأجساد، أنين خافت صادر من صاحب الجسم الضخم، يصاب بعدم الاتزان، يسقط أرضا ويدور خصمه دورة النصر، يتأكد من كونه غير قادر على إكمال القتال، تأتي الهتافات من الأعلى، تطالبه بالمزيد، تريد إخراج الوحش الكامن بداخله، يتردد قليلا، يستمع إلى الهتافات بلا مبالاة، "ليس المهم في المعركة القضاء على العدو، المهم الحصول على الجائزة، أنا المنتصر الآن، وسوف أحصل على جائزتي! " وفي مثال هذه الفقرة نجد أنها تكونت من (17) سبع عشرة جملة، جاءت (13) ثلاث عشرة منها جملا فعلية مقابل (4) أربع جمل اسمية، م نوع الجملة العدد الإجمالي النسبة المؤية 1 الاسمية 4 17 23.53 2. الفعلية 13 17 76.47 ولعل من المثالين أعلاه نكون قد وفقنا لتبيان أثر حضور الفعل المكون الرئيس في اصطناع مناخ ذي دلالة الصراع والتوتر والقلق والاضطراب المكتنزة على حمولات تصاعدية للأحداث عبر هذه المتواليات الفعلية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم