أمين غانم

مرات كثيرة نحتاج لشذرات حقيقية من حياة إنسان ما، والحقيقة لا تعني التاريخ بقدر ما تكون نهاية متأخرة لاستبطان تلذذ ما بمزامنة أحداثه وبأثر رجعي، والإنسان هنا يظل هو الحكاية والرواية التي لا تحتاح لمقومات غير تلك التي تُرينا بعضاً من جوانب اللذّة الغريبة.
هي سيرة عقلانية مختلفة، سعت لاسترجاع مرافقتها لتطلعات الشباب العربي بمختلف مشاربه ليس كشخوص من خيال بل كتفاصيل شتى شكّلت حقبة مُفعمة باعباء  الخروج من عباءة الجيل الأول للثورة يحركها غرام ثقافي فتي كمعيار وجودي منوط به الجموح والقفز فوق كل الموانع.

كتاب شرعت صاحبته بتفريغ اوجاع الذات واشواقها كمقاربات نفسية لشحذ الحياة لطالبة تونسية وصلت لبغداد كاول شابة مبتعثة، وبدت الكتابة مزاوجة بين إسترجاعات وئيدة لمكنونات إجتماعية حبيسة وما لبثت ان تلاشت ومضات حياتها في تونس وغرقت شيئا فشيئا في صيرورة العراق كتفسخ مُبكّر للهوية المبتغاه بتزايد سطوة الرعب المخابراتي حيث بدت ملامحه بطغيان الحياة الجديدة في (الوزيرية) السكن الجامعي للطالبات.
لكن الحيز الذي انشغلت الكتابة برواية شذرات من أحداثه وابطاله، الوسط الجامعي والذي بدا كظلال مباشر لكل ما ينبض بوجدان الامة وكحقل زمني لمعاينة بذور التباين التعبوي لخطاب الثورة العربية داخل صفوف الجيل الثاني، نظام بورقيبة يبتعث شابة الى بغداد كرمزية لخلخلة البنية التقليدية للمجتمع التونسي،  جنباً إلى جنب بصعود جناح عسكري من حزب البعث العراقي (تولي صدام حسين لمقاليد الحكم) كإنحراف جلي وغير متجانس للفكرة القومية ناهيك عن ازدياد البون مع القوميات الأخرى يشي بها إنكفاء الشباب الكردي وإغترابه عن جيل عربي هو بالأصل أكثر إضطراباً وتوجساً،  سخرية الطالبة اللبنانية (راوية) من فكرة الوحدة العربية مع مواطنتها اليسارية (خدّوج) والتي ماتفتأ تتغامز وتلقي باللوم على (الإمبرالية العالمية).

لقد خرجت حياة الرايس من شرنقة الساردة الحائرة بمضيّها في إنتقاء الملابسات المتبقية لرسم معان منطوية لتاريخ يبدو منقضياً لكنه ماينفك يتمدد فينا كشجون حانية للمكان بألفة جريحة وغير مكتملة الملامح، أشبه بمحاولات حثيثة لتبديد زبد كثيف ما يفتأ يداهمنا مهما اوغلنا في الإبتعاد عنه.
هكذا تتحول محطات حياة الرايس في جامعة بغداد لشقوق مباغتة في مرآة صغيرة لطالما اعتقدنا بنسيانها، اليوم بتنا بحاجة قصوى للتسلق لأعماق البئر المشؤوم لرمق بعضاً من تفاصيل أختزلتنا كرهط غابر وغير مكترث للإلتفات للخلف مرتين، حالة من إندياح دوائر المياه في القاع تبدو الآن كنمنمات أثيرة في عيون محارب قديم يلهج بالإبتهاج  لبقاء المياه متدفقة نقيه من ذات القاع المنسي.

لسنا بحاجه للخيال ولا للبناء الروائي بقدر حاجتننا للملامح الجاهزة في سردية شابة جامعية كإيغال لتمثّل الحداثة وعيش مابعد استلهام تعقيداتها، لأن الشغف هنا لا يحتاج لمقومات اكثر من مرافعتها هي كإمتداد ناعم للمشروع الثقافي البورقيبي داخل عمقه العربي كسياق نظري للتلاقح والتداخل.
إنها فيسيفساء بغدادية تكتنز وتستبطن إرهاصات شتى، كتابة لا تجترح الغواية بقدر حيازتها لمسلمات الأجيال والازمنة، تحاول أن تطوّق الفكرة المتشققة للحياة الأبدية بإيماءات حانية للتغاضي عنها كلياً.
( بغداد وقد انتصف الليل بها) هي عودة للإنصات لدبيب عتيد مترامي من مدينة الحكايات والأساطير والملاحم، كإنفلات استعصي عن الكلام ردحاً، وتحولت كل طاقته لعذاب جمع زلّات اربعة عقود في بلد غدا امتلاكه لاسباب الحياة المثلى هي علته المؤكدة للمضي به نحو المجهول، وباتت الكتابة عن كل ذلك طاقة قصوى لأنثى لم تجد بداً من البوح أو بالأحرى السرد المتعقّل لبدايات يجدر بها أن تبدو أكثر جنوناً وجموحاً.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم