هيثم حسين

أحيانا يطرأ على حياة كل منا حدث، ومهما كان بسيطا أو غير متوقع، فإنه يغيّر نظرتنا إلى أنفسنا، وإلى حياتنا التي نعيشها معتقدين أنها الخيار الوحيد الممكن لنا، بينما التغيير ممكن في كل لحظة وكل آن. الحياة كرحلة نختارها وتختارنا، ليست مرسومة سلفا، بل نحن من نوجهها وفق رغباتنا وقدراتنا، وحسب خوفنا وعجزنا وغيرهما من المشاعر المتداخلة التي مر بها بطل رواية “قطار الليل إلى لشبونة”، للسويسري باسكال مرسييه.

يعمل الكاتب والفيلسوف باسكال مرسييه في روايته “قطار الليل إلى لشبونة” على نسج عالم روائي تتداخل فيه علوم اللغة والفكر والفلسفة والأدب والحياة لتبرز جماليات مخبوءة وسط ركام الوقائع، وفي ظلال الأمكنة التي يرتحل بين طياتها.

الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي نال حظا كبيرا من الشهرة (وقد صدرت عن منشورات مسكيلياني – تونس، بترجمة سحر ستالة) تبرز الرحلة التي يخوضها الإنسان لإعادة اكتشاف ذاته وعالمه، انطلاقا من الشغف بالمغامرة، والبحث عن الجديد، أو عن الأجوبة التي تثيرها أسئلة تلح عليه، وتقض مضجعه.

الرحيل الصادم

باسكال مرسييه نجح  في جعل بطل روايته، الذي كان يبدو رجلا جافا، يقود القراء إلى رحلة لاكتشاف الذات
باسكال مرسييه نجح  في جعل بطل روايته، الذي كان يبدو رجلا جافا، يقود القراء إلى رحلة لاكتشاف الذات

يوجب مرسييه على بطله، ويحرض القارئ من وراء ذلك، على ضرورة البحث عن القيمة الإنسانية، وعدم الانسياق وراء دائرة الاستهلاك الحياتية بالمطلق، وعدم الارتكان إلى البؤس الذي ينتجه الواقع بالتراكم، ويصوغ منه رداء قاسيا يحجب عن صاحبه حب الحياة الساحرة والغنية بالكثير من المعجزات.

يكون لقاء غريغوريوس بامرأة غامضة بمثابة خضّة تنبهه إلى أن هناك أمورا عليه أن يلتفت إليها، وأن الحياة أغنى من قاعات الدروس، وأروقة الجامعات، وظلّ مشهد كتابة المرأة لرقم هاتف على جبينه كي لا تنساه مؤثرا وحاضرا لديه، وكأنه أصبح شخصا آخر من بعد تلك اللقطة العابرة.

كان اللقاء مشعلا لشرارة خابية في الروح والوجدان، يجد غريغوريوس نفسه بعدها شخصا آخر، يكسر الطوق الذي يكتشف أنه مقيد به في حياته، يمضي برحيله الصادم بحثا عن حياة أخرى، عن حياة يشعر أنه يفتقدها وعليه أن يعثر عليها وسط دوامة الزمن التي أتلفت سنوات من عمره.

غريغوريوس العالم، الذي كان يبدو رجلا جافا للبعض وكأنه مخلوق من مفردات ميتة، كان على وشك الدخول إلى قاعة الدرس برقم هاتف كتبته على جبينه امرأة يائسة ممزقة على نحو ظاهر بين الغضب والحزن، امرأة ترتدي معطفا جلديا أحمر، ولكنتها ناعمة بشكل يصفه بالخرافي، ويجد نفسه متورطا في حبها بطريقة ما، وبعد أن رافقته إلى القاعة، غادرت من دون أن تترك له أي عنوان، تاركة إياه وسط دوامة من الانفعالات الغريبة التي اجتاحته.

يستعرض غريغوريوس في ذهنه حياته، يترك محفظته وكتبه بعد مرافقة حياة بأسرها، وأيقن أنه إن كان عليه أن يذهب فإن عليه أن يترك كتبه الغالية على قلبه أيضا. أحس أنه على وشك بداية جديدة مغايرة، يتجه نحو المخرج وهو لا يملك أدنى فكرة عما يمكن أن تعنيه كلمة الرحيل.

يتأمل المكان الذي أمضى فيه أكثر من أربعة عقود من حياته، اكتشف كم هو متعلق به وكم سيشتاق إليه، سار ببطء إلى الخارج، وعندما تراءى له الجسر من بعيد انتابه شعور غريب أقرب إلى الحيرة منه إلى الإحساس بالتحرر، ها هو في السابعة والخمسين من عمره، ولأول مرة سيذهب لاستعادة حياته.

لم يكن يعرف شيئا عن تلك المرأة ولا حتى اسمها، كل ما كان يعرفه فعلا هو أن لغتها الأم هي البرتغالية، وعلى الرغم من أن مجرد الطمع في رؤية الرسالة من أعلى الجسر لا يعدو أن يكون غباء محضا، بالنسبة إليه، إلا أنه ظل يجول بنظره في الفراغ حتى أجهد واغرورقت عيناه بالدموع.

أخذ يفتش عن دفتره حيث دوّن الرقم الذي كتبته المرأة المجهولة على جبينه، ثم مشى إلى آخر الجسر وهو لا يعرف إلى أين يمضي، لقد كان في تلك اللحظة يفر من حياته الراهنة، ويستدرك في داخله متسائلا ألا يمكن لرجل بهذا الإصرار على الرحيل أن يتراجع عن قراره ويعود إلى منزله بكل بساطة؟

كلمات ودلالات

بطل يبحث عن نفسه
بطل يبحث عن نفسه

يخوض بطل الرواية ريموند غريغوريوس رحلته في أكثر من اتجاه، وتكون رحلته مع كتاب أماديو دي برادو “صائغ الكلمات”، سائرة في اتجاه مختلف، نحو كشف المخبوء وراء كلمات الراحل الذي كان مؤثرا في عصره، وترك إرثا لمن خلفه، وأدلى بدلوه في لعبة الحياة والثورة والحب والموت.

يستقل القطار إلى لشبونة، وتكون تلك الرحلة متشظية، عميقة، دافعة إياه إلى أعمق أعماقه، كاشفة له عن أسرار عن ذاته ومحيطه، ومولدة لكثير من الأسئلة التي لم تكن تخطر له على بال، سواء تلك المتعلقة بالحياة أو الحب أو الموت أو السعادة، أو غيرها من القضايا الحياتية المهمة.

يحصل على “صائغ الكلمات” في محاولة منه لاكتشاف البرتغالية وخباياها، وهو العالم باللغات القديمة، وحين يكتشف ما كتبه، يعجب به كثيرا. تؤثر فيه الكلمات، ولاسيما المقدمة التي يذكر فيها أنه من بين آلاف التجارب التي نخوض غمارها، هناك تجربة واحدة لا غير يمكن أن تسعفنا في نقلها الكلمات. وأن هذه التجربة اليتيمة لا تقال إلا مصادفة وبكل بساطة مهما أوليناها من عناية وحرص. ويلفت إلى أن التعرف إلى الفوضى هو أسهل طريق إلى فهم تجارب تبدو مألوفة للناس، ولكنها في غاية الغموض.

جماليات مخبوءة وسط ركام الوقائع
جماليات مخبوءة وسط ركام الوقائع

يستنطق في كلمات ذاته الغامضة وتجاربه الخرساء، وحينئذ فحسب، اكتشف وهو يقلب برفق وبطء الصفحة تلو الأخرى كهاوٍ للكتب العتيقة، صورة لكاتب، كانت صورة قديمة تبدو نازعة إلى الاصفرار منذ الفترة التي طبع فيها الكتاب، مثلما نزعت المساحات السوداء فيها إلى البني الداكن، أما الوجه فكان يضيء على خلفية خشنة مظلمة وشبحية، تراه يبدو كمن أصبح أسيرا لذاك الوجه كليا.

يتأثر بما يقرأ، ويتماهى معه، وكيف أنه يريد أن يفعل شيئا آخر في حياته، ولم يعد يرغب في أن يكون الشخص المكرر نفسه، وليست لديه أية فكرة عن الأشياء الجديدة التي يمكن أن يعثر عليها، ورغم ذلك لا يستطيع أن يمنح الآخرين أي مهلة من الوقت حتى ولو كانت ثانية، ويؤكد أن الزمان يجرفه بسرعة إلى النهاية، وربما لم يبق في زوادة العمر شيء.

يشعر أنه هارب في قلب المدينة التي كانت محور حياته، هارب ومجبر على الاختباء في المنزل ذاته، المنزل الذي كان يعيش فيه منذ خمس عشرة سنة، ولم يكن ذلك غريبا فحسب، بل كان مثيرا للسخرية، شبيها بمسرحية هزلية، ومع ذلك فقد كان أكثر جدية من معظم الأشياء التي عاشها وقام بها في حياته، وكان من المستحيل أن يشرح هذا الشعور لأولئك الذين كانوا يبحثون عنه. يتخيل نفسه وهو يفتح لهم الباب ويرجو منهم الدخول، ويؤكد استحالة ذلك.

يقرأ غريغوريوس مقاطع من الكتاب الذي ينير دربه لاكتشاف أعماقه، ويعيش حالة صاحبه، وكيف أنه عندما يقرأ الجريدة أو ينصت إلى الراديو أو يرهف السمع لما يقوله الناس في المقهى، غالبا ما ينتابه الإحساس بالتخمة، بل وبالغثيان أحيانا، ويجد أن الناس يكتبون الأشياء نفسها دوما ويرددون الكلمات نفسها، يستعملون الصيغ ذاتها، العبارات ذاتها، الاستعارات ذاتها، والأسوأ من ذلك أنه يجد نفسه مثل الآخرين يردد الأشياء الأبدية ذاتها، ويصفها بأنها مستهلكة وذاوية بشكل رهيب. ويتساءل: هذه الكلمات التي أتلفتها ملايين الاستعمالات، هل بقيت لها مجرد دلالة؟

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم