عــلي الســياري

تبدو كلّ مكوّنات العالم السردي في رواية "أحببت جلادي" للتونسيّة لمياء الفالح، مشيّدة على جماليّات القبح والألم حيث الشخصيّات مثيرة للشفقة، والأمكنة والأزمنة باعثة على الحزن والرعب. ولكنّ الشخصيّة الرئيسيّة "سلام" تبدو، على خلاف غيرها، ذات أوصاف خِلقيّة وخُلقيّة منفلتة من سمات القبح الذي يطغى على عالم الحكاية، وذلك رغم حياتها البائسة ومصيرها المؤلم الذي انتهى بها إلى الموت على يدي زوجها وحبيبها السابق "عائد" بعد أن أفلتت من هذا المصير مرات عديدة خاصة خلال الفترة التي قضّتها مع خاطفها ومغتصبها الجندي الأمريكي "ديفيد".

في هذه الرواية الجريئة الصادرة في تونس، منذ أسابيع، في طبعتها الأولى عن دار "عليسة"، يبدو كلّ شيء باعثا على الإحساس بالألم والحاجة إلى التعاطف مع شخصيّة "سلام"، الشابة العراقيّة التي لم تعرف من معنى السلام غير اسمها رغم سعيها الدائم إليه وبحثها عنه. وربّما تكون هذه المفارقة خطّطت لها المؤلفة (التونسية) جيّدا لتبرز من خلال روايتها عذابات المرأة العربيّة (وتحديدا العراقيّة) ومعاناتها في محيط اجتماعي قاس ويتوفّر على كل أسباب الموت قهرا وكمدا. فالمرأة، كما هو في المخيال الجمعي العربي، كائن يرمز عادة للسلام والحبّ، وربّما سعت لمياء الفالح إلى أن تكون بطلتها متصلة أساسا بهذه النظرة "الرومنسيّة" التي لا تعيب المرأة في شيء بل، على العكس من ذلك، تعلي من قيمتها وترفع مكانتها في سلّم القيم الاجتماعيّة والجماليّة، ولكنّ السلام والحبّ اللذين تسعى إليهما المرأة يتحطّمان على صخور عقلية ذكوريّة متعالية، سماتها التجبّر والأنانيّة وحب الامتلاك بالقوّة.. فيتحوّل السلام إلى حرب أبطالها رجال مشغولون بالقتل وحبّ الامتلاك، ويتحوّل الحبّ إلى كره وضغينة أبطالها رجال، أيضا، غايتهم إشباع النزوات وإرضاء الرغبات.

قد تبدو هذه النظرة إلى صراع الذكورة والأنوثة في عالم عربيّ محكوم بالعادات والتقاليد وبالنظرة الضيّقة إلى الآخر المختلف، ذات خلفيّات إيديولوجيّة حكمت تفكير الكاتبة التي صاغت كل هذه العوالم السردية في رواية "أحببت جلادي" خاصّة أنه من الطبيعي أن تنتصر لمياء الفالح للمرأة وقضاياها، ولكن تتبّع الوقائع التي طرأت على حياة البطلة "سلام" من خلال التأني في تفكيك عالم الحكاية وفهمه، يجعل كل قارئ يتفاعل مع مصير هذه الشخصيّة ويتعاطف معها كما يمكن أن يتأثّر بما حملته من خصال تجمع بين الجمال والذكاء والصبر والتعلّق بوطنها والتضحية في سبيل من تحبّ.

لقد أحكمت لمياء الفالح رسم ملامح شخصيّة "سلام" فبدت كأنها "فكرتها" المزروعة في عالم الحكاية، لا تتركها تبعد عنها أو تتحرّك بعيدا عما تريده لها، فهي تحمل كل رسائلها التي تسعى إلى إيصالها من خلال هذه الرواية المثيرة للجدل والاهتمام. ولكن رغم ذلك لم تطغ أحاديّة الصوت في رواية "أحببت جلادي"، حيث لا بمكن للقارئ أن يلاحظ أن "سلام" هي وحدها من تتكلم في عالم الحكاية، أو هي وحدها من يفرض رأيه أو يعلي صوته ليفرض أفكاره عنوة.

ولذلك لا بدّ من التأكيد في هذا السياق، أنّ رواية لمياء الفالح هي رواية متعدّدة الأصوات. وفي هذه الرواية، نكاد لا نفرّق بين الضحية والجلاد، أو بين الحبّ والكره.. بل يصل الأمر إلى تداخل الجمال والقبح، فنستمع إلى كل صوت يصرخ في هذا الرواية مثلما تصرخ "سلام" في أعماقها فلا يستجيب إليها أحد لأنها كائن أنثويّ ينتمي إلى الهوامش و"الرونسيّات" الحالمة والزائدة عن الحاجة من منظور ذكوريّ متخلّف، ولأنها امرأة عربيّة مقهورة، صرخت ليلة زفافها حين اختطفها أحد جنود الاحتلال الأمريكيّ في إحدى المدن العراقية المنكوبة والمشبعة بسفك الدماء، وتواصلت صرخاتها في جحيم الاغتصاب و"العبوديّة"، حتى أصبح الألم عندها في طعم الراحة، والكره والنقمة في طعم الحبّ والطمأنينة..

رواية "أحببت جلادي" تبدو ذات بناء تقليدي من حيث معالم الحكاية، ولعلّ ذلك ما يمنحها قيمة الإمتاع الذي يحدثه، عادة، السرد الكلاسيكي في نفس القارئ. ولكن القيمة الأهمّ لهذه الرواية، في نظرنا، تكمن في تصوّرها للصراع بين متناقضات حكمت النفس الإنسانيّة وأبرزها ثنائية الحبّ/ الكره، السلام/ الحرب، الحياة/ الموت. وإلى جانب ذلك تثير الرواية إشكاليّة الصراع التاريخي والحضاري المزمن بين ثنائيّات أخرى تبدو متناقضة ومنها أنوثة/ ذكورة، غرب/ شرق، مسيحيّة/ إسلام.. كل ذلك يُثار في الرواية بأسلوب سرديّ جميل يجعل "أحببت جلادي" محبّبة لدى القارئ ومرهقة لتفكيره، إرهاقا جميلا، إثر الانتهاء من قراءتها. كما يجعلها ذلك قابلة لقراءات متعددة وتأويلات لا حدود لها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم