ريزان عيسى

يدخل الكاتب عالم الرواية في بابها التمهيدي ليحيلنا العنوان " صورة" إلى  مشهدية وجودية صرفة  للعجوز الذي يجرجر خطواته بصعوبة على الثلج الهش متأملاً نفسه في صورة المكان  الرتيب  والموحش. سيامند الذي يختبر العزلة بعيد موت زوجته المفاجئ, تقوده الوحدة ليتأمل جسده المنهك محاولاً التفكر في جدوى وجوده العبثي في مشهد الحياة الخاوية في منفاه، إحساس بالعدمية يتسرب إليه ليدرك أن كل تلك السنوات التي قضاها بعيداً عن وطنه تبخرت ذكراها بمجرد غياب زوجته عن الحياة، كال الوجود المجهول بمكيال الزمن ليدرك أن ما تركه خلفه لم يعشه.

"ولئن تشعر بثقل خطواتك على ثلج خفيف، تدرك تماماً معنى الهلاك، وتبدو لوجهك المترهل أكثر تعقلاً من أي وقت مضى، ولكن فرصة الحياة في مشهد المجهول، تشتت فرضية النهاية في عقلك، فضولاً وليس شهوة أو طمعاً، تشعر وكأن الذي تركته خلفك لم تعشه أو بمصطلح أوضح؛ لم تكن كما تريد!"

تبقى تلك النظرة العدمية ومشاعر الخواء تفوح من مدخل الرواية بما تحمله من انكسار وشعور عميق باللاجدوى، يتداعى عالم سيامند فجأة بعيد موت زوجته النمساوية فيشعر عميقاً أن جدار المنفى وسطوة العمر سورا روحه بالخواء ووضعاه أمام تساؤلات وجودية عدة، هويته وزمنه المعاش وجدوى حضوره في المكان الذي أصبح فجأة خاوٍ ومظلم.

" لا ينجو من لا يحلم، إنها الحتمية في صياغة الزمن على هيئة قرين يواسي العزلة"  

"عندما يكبر المرء يصبح لكل شيء معنى وأثر، تزداد الأشياء حجما ً وثقلاً، يصاب الزمن بالأرق والتكدر، يختصر خطه في فتحة قفل الباب عندما يحاول أن يصطاد عقله ويهدأ من رعشة يده ليضع المفتاح في الشق المعدني، ولا ينساه مجدداً كما في المرات السابقة، كتلته ثابتة برصانة العجز، وحدها الرغبة في العودة تستفز دينامية الحركة في أطرافه، فلا طاقة له لإدارة القفل ودفع الباب بكتفه، كأنه يدفع عنه جثة رجل ضخم."

" ليس للرحمة ثقل على معنى الأشياء حين يشيخ الجسد، لا مناص من الوجع في لحظة تكدر الزمن عند عتبة النهاية "

" يكررها في عقله حينما يشعر أنه غاص في سديم العبث، يحاول أن يبرهن للوقت حضوره السرمدي، ّ فتلك السكينة وغم إحساسه بالفراغ، كما لو أنه في قبر أجوف"

 تشعر لوهلة أنك أمام صورة سارترية، محاكاة مشهدية لبطل رواية الغثيان الذي يكتشف أن الوجود من حوله تغير وأصبح يثير لديه الكثير من الاغتراب محاولاً على مدار الرواية إيجاد مخرج من تلك المشاعر الغارقة في السوداوية، يراقب عالمه المتداعي قاصداً من خلال التوحد مع نفسه اكتشاف كينونته العدمية، لتظهر ملامح الكائن الذي أن فقد ايمانه بالحياة، مع ما يرافقه من رغبة دائمة بالغثيان. يبقى بطل رواية الغثيان هائماً على نفسه باحثاً عن مخرج دون أي طائل، ليكتشف في النهاية الوجود كزمن ملموس وحاضر، زمن غير متخيل فتسير رواية الغثيان لسارترفي كامل فصولها صوب سلبية في الحدث، فلا شخصيات حاضرة في المشهد ولا أحداث ولا زمن متغير، تغرق السردية في سديم العدم السارتري ويتداعى الثالوث الأرسطوي وبنيان الرواية التقليدي فلا أحداث على الإطلاق باستثناء ذلك التأمل الفلسفي للحظة الوجودية. تنتشل الموسيقى البطل من عدميته لوهلة فيغيب فعل الغثيان عند حضور النغم الساحر كمتخيل يخرجه من بؤس اللحظة المعيشة.

يعول سيامند في رواية السماء تمطر بشراً على ذاكرته البعيدة يعود أدراجه صوب الوطن منتشلاً روحه من سطوة الفقد المرير. لا يجد له مخرجاً من تداعي زمنه المعاش تحت ثقل حضور الموت السليط إلا بالعودة إلى ترابه الأول. قراره المفاجئ بالعودة إلى الوطن فتح له كوة في جدار اغترابه مشرعاً له الحدود ليخرج من إسار العدمية، فحضور الذاكرة كمتخيل كان خلاص سيامند الوحيد من تلك المشاعر الخاوية.

" خمسة أيام وسبع ساعات: موعد رحيله إلى هناك، جهة التكوين والخراب. فيما مضى كان حالماً بالهروب والآن شغوفاً بالعودة."

" الانتماء لعنة الشيخوخة الأبدية، بمجرد أن تشعر أنك على أعتاب النهاية، تعود إلى ذاتك، ماهيتك، ترابك، لا تعود تكترث بتفاصيل الأشياء من حولك، تدرك متأخراً أنك مهما حاولت النسيان والهروب، لن تتخلص منها، بل ستبحث عنها وتعود إلى نقطة البداية التي وجدتك."

لا يبقى الراوي مطولاً في تلك الأجواء السارترية العدمية وإنما يغادرها غير معولاً على الموسيقى كحدث غير ملموس ينتشله من عدمية حضور العبث على هيئة موت وإنما يعول على حنينه للوطن، فتتغير معالم الرواية بطريقة دراماتيكة.

 بمجرد دخول الراوي فصل الرواية الأول، يعود متكئاً على ذاكرة سيامند صوب ماضٍ ليس بقريب لتزدحم الرواية بالأحداث والشخوص وتفاصيل الحياة المعيشة  ليأخذنا السرد صوب الشمال السوري إلى قرية " ختيه" الكردية المنسية والمتاخمة في وجودها للقرى الحدودية التركية، تكاد تشم رائحة التبغ في الغرفة الطينية الفسيحة لمختار القرية " خلو" وهو ينتظر مع رجاله وصول حمولة التبغ المهرب من الأراضي التركية، يحكي الكاتب على لسان الراوي تفاصيل الحياة المعيشة لقاطني القرى الكردية النائية في بداية حقبة الستينات من القرن الماضي، ليسرد بلغة رشيقة، سلسلة وغير متكلفة.

تأخذنا الحبكة في رحلة مشوقة عبر قصة حب عاصفة لشفين التي تختار التمرد والخروج من عباءة الأب المتسلط "خلو" الذي يريد تزويجها قسرا لتغادر قريتها برفقة عشيقها هاربة معه عبر الحدود قاصدين مدينة ديار بكر التركية الكردية لتكسر بهروبها أغلال والدها المتسلط وتابوهات الذكورة في بيئتها الريفية التقليدية.

تنتهي مغامرة شفين باستدراجها إلى القرية وقتلها بطريقة وحشية رجماً بالحجارة من قبل أهلها وسكان القرية، تحمل الرواية على مدى عدة فصول لعنة قتل شفين لتلاحق تلك اللعنة الجميع.

يصور كاتب الرواية مشهد الرجم بلغة شعرية محاولاً تطعيم الرواية بالشعر مما يعطي المحكية ذلك الفضاء اللغوي المرمز.  

" أول حجر من يد غريب حطم جمود المشهد وأعاد للوقت هيبته بعد أن فقدها في الصمت، أول حجر لامس ذرات أشعة الشمس المندثرة على الأرض لتعلن للقصة نهاية.  هو الحجر، شقيق ذلك المقذوف من يد الحجاج على تمرد الشيطان، كلاهما خفيف على الساعد وثقيل على الفكرة، كلاهما حجر.

شفين، انظري إلى البعيد، أنا هنا!

صوت أوميد، نطقتها وهي تلتفت يميناً وشمالاً حتى رأت طيف جسد يسقط من ٍ السماء، جسد عار يقترب منها وكأنه لعبة بلاستيكية تتداخل ملامحها عشوائية لتبدو ككتلة من مادة لزجة.

كان ساخناً ومرناً حين سقط على وجهها، كان كافياً لتشاهد بعد ذلك يقيناً أن السماء تمطر عليها بشراً ."

يتابع الكاتب في الحكاية بأسلوبه الشيق فيتناول حياة العائلة بعيد ذلك الرجم المشؤوم لتلاحق لعنة الحجارة المكان وقاطنيه.

يسلط كاتب السماء تمطر بشراً الضوء على التحولات الاجتماعية المهمة في حقبة الستينات من القرن المنصرم، إبان حكم حزب البعث والإجراءات الاستثنائية التي اتخذها بحق الأكراد من قاطني الشمال السوري، فانتزعت السلطة الحاكمة ملكية الأراضي الزراعية من أصحابها وجردتهم من جنسيتهم السورية فتغيرت التركيبة النفسية والسلوكية لساكني تلك الجغرافيا ودفعت بهم المظلومية للانكفاء على الهوية القومية وتبني الفكر الإيديولوجي الثوري.

يبني الكاتب شخصيات الرواية بطريقة مقنعة تعكس فهمه العميق لتلك التحولات الدراماتيكية التي عاشتها المنطقة ابان تشكل الهوية الوطنية السورية، فتظهر   شخصية الآغا أو المختار خلو كإحدى تلك الشخصيات الاشكالية في المجتمع الكردي لتعكس ببنائها المتقن في الرواية نموذجاً نمطياً من القيادات العشائرية والسياسية الكردية التي استمدت نفوذها من مرجعياتها العشائرية فأصبحت تلك السلطة التقليدية قيداً إضافياً كبل كاهل المجتمع الكردي.

يوثق الكاتب الأحداث السياسية بطريقة تخدم الرواية ولا تقلل من القيمة الأدبية للعمل. تظهر تلك الشروخ التي قوضت أركان المجمع الكردي الزراعي ودفعت الآلاف للهجرة صوب المدن بغية تأمين مستلزمات المعيشة.

يتحرك ايقاع السرد في مستويات عدة وفق الشكل المفهومي والتخيلي للنص فيتنقل بين البداهة التي لا تتطلب انجازاً تأويلياً في البنية السطحية للنص والتقدم في المسافة السردية صوب البنية العميقة بما يستخدمه من سيميائية رمزية تحيلنا إلى أزمنة أخرى تتقاطع مع الزمن الموضوعي للرواية، وهذا التنقل لا يضعف من الانسجام كعنصر مكون للقيمة الجمالية في النص والذي تبدى في اللغة وفي الطابع التخيلي المتناغم في سياقات السرد.

في الفصل الذي يتحدث فيه الكاتب عن البئر كمشهد سيميائي يحيلنا إلى لعنة الجغرافيا التي تلاحق قاطنيها فتردي الكثيرين في ظلمتها ليلاق الجميع مصيراً يتقاطع بطريقة ما مع مصير الضحية.

 الأب خلو يموت بطريقة مأساوية وشمدين المتسبب بموت شفين تنتهي حياته كحياتها تلاحقه اللعنة ليرمي بنفسه في بئر منزله الشبيه بالبئر الذي دفنت فيه شفين، لكن تلك البئر تُردم وتتحول بعيد سنوات قليلة من موت شمدين بداخلها إلى منصة أو طاولة إسمنتية يجلس حولها جميع أفراد العائلة ليشربوا الشاي ويتناولون فطورهم فيظهر التباين كأسلوب يتبعه كاتب الرواية، لتتمايز الاشياء بضدها بحيث يشتمل الموقف على حالات متعارضة تؤدي الى مغايرة تحدد أبعاد الصراع الدرامي وهو ما يميز أسلوب الربط في المنجز الروائي.

 " أجاب بصوت تملؤه الحسرة والانكسار: "خالتك شفين.. في كل مساء تأتي مع روجين لزيارتي وتقدمان المساعدة لي، ومن ثم تعودان إلى المقبرة..."

الماء يا شفين، اغسلي به دمك على يدي ووجهي في هذه البئر، فهو قريب من الذي أنت فيه، اقتربي فأنا صلصال الله المعجون بالألم، هنا، هذا دمي أرتوي به، قبل أن يثور ويتحلل بذاره ويرتقي إلى السماء فتمطر الرصاص والبارود، اجهشي بالتراب واصرخي بصوتي الذي ضاع بين جثث تلك الكائنات في معتقلات الأرواح، دعي هذا الماء يعفن ما تبقى من ذاكرتي، فأنت لست آخر جثة تلوثت بها يدي، تعالي لأسرد لك عن سر عزلتي، لكن ليبقى هذا الكلام سراً بيني وبينك."

"... لم ترق له فكرة تحويل البئر الذي رمى به والد سيامند نفسه إلى مائدة حجرية يتجمع حولها أصحاب البيت لشرب الشاي أو الفطور، طوال الوقت شعر أنه يجلس أمام قبر أو منصة انتحار.."

في الفصل المعنون ب "العالم الآخر" يشرع لنا الكاتب الخيال على مصراعيه ليبدأ حكاية جديدة دون أن يصل بالحبكة في فصلها السابق إلى ما يشير إلى انفراج أو تأزم أو نهاية غير معلنة، يدخل عالمه الجديد ليخرجنا تماماً عن سياقات السردية السابقة لنظن لوهلة ونحن نتابع القراءة أننا أمام عمل روائي جديد لا يمت بصلة لما قبله من فصول مضت، حتى اللغة تأخذ إيقاعاً مختلفاً في السرد فيقتصد ولا يسرف في التعبير والتصوير بغرض تجاوز الواقع وإدراك أبعاده الشاعرية كما فعل في الفصول الأولى للرواية، يسترسل بِأسلوب مباشر محاولاً خلق عالم يحاكي العالم الأول في زمانه ويختلف عنه في مكانه وفي منظومته القيمية.

الحقبة الزمنية ذاتها في ستينات القرن المنصرم، قصة حب  بين شاب وفتاة، كارل وبيركيت، تنتهي بالزواج، يحاول الكاتب أن يبني عالماً كاملاً حول الشخصيتين، يحلل بنية المجتمع الأوربي في مدينتين عريقتين، فينا وبرلين، في زمنٍ شهد تحولاً نوعياً في منظومة القيم التقليدية للمجتمع الأوربي، جسّد الكاتب تلك القيم الموروثة في شخص كارل ونسج الراوي أيضاً بطريقة محكمة قيم الحداثة والتغيير والرفض والتي هي أقرب إلى العبثية منها للتنوير وجُسدت تلك القيم في شخصية بيركيت، فسلطت الرواية الضوء على جيل في المجتمع الأوربي ممن هم أقرب إلى التمرد منه للمهادنة ومن سعوا دوماً إلى تفريغ عقولهم من كل ما له علاقة بالموروث، فخلقوا تلك القطيعة بينهم وبين الموروث الذي اعتبروه حاجباً للرؤية الواضحة ومانعاً من خلق وعي جديد، فتظهر في الرواية الشخصيات التي تحمل بطولات مزيفة لأبطال لا يمتلكون صفات البطولة الموضوعية ومثلت أيضاً بيركيت أنموذجاً لهذه الشخصيات.

تنتهي العلاقة بايثار بيركيت حريتها الشخصية على بناء عائلة وتربية طفل فتترك زوجها وابنها لتلاحق شغفها بالتحرر من كل ما يعيق خلاصها الفردي بعد أن تكشفت ميولها الجنسية المثلية.

يعود كارل من برلين إلى مسقط رأسه في مدينة فينا ويربي ابنه ستيفاني ليكبر ويصبح مصوراً صحفيا وكاتب مقال في صحيفة محلية، يهتم ستيفاني بثقافات شعوب الشرق ويقوده شغفه بالتحري عن هذه الشعوب للتعرف على شاب كردي سوري مقيم في مدينة فينا، يحكي له الشاب عن الأكراد وما يلاحقهم من مظلومية في الأوطان التي يعيشون فيها فيقرر ستيفاني زيارة سوريا للتقصي عن وضع الأكراد السوريين، لنعود مجدداً الى عوالم الرواية في فصولها الأولى لنلتقي بسيامند في مطلع شبابه وهو حفيد المختار خلو وابن أخت شفين والذي لاحقته لعنة المكان ليعيش حياة سوداوية تقوده إلى السجن ومن ثم إلى ما يشبه الجنون.

الرواية تضعنا أمام عالمين مختلفين يعيشان مخاضات اجتماعية تتمايز عن بعضها وتتناقض إلى حد بعيد لكنها تخلق شخصيات تحمل خصال أبطال لا يمتلكون صفات البطولة التقليدية.

وفِقَ الكاتب الى حد بعيد في خلق تناص بين عالمين، وطرح في سياق العمل الروائي الكثير من الأسئلة والمفاهيم عن الهوية والمنفى، الحب والكراهية، الحرية والظلم، كل ذلك على لسان أبطاله اللذين بحثوا دوماً عن قيم مغايرة وإشكالية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم