العربي عبد الوهاب

   القرية هى عالم رواية "صبيحة تخرج من البحر"، وقدمها الكاتب بطريقة فيها حنو بالغ متأن وبشاعرية تحمل درجة كبيرة من عناصر التخييل، وبرغم أنها تحتفى بالقرية كمان أثير إلا أنها فارقت وجهة النظر فى الروايات الكلاسيكية التى تناولت القرية فى الأربعينات والخمسينات، فمن الواضح ولع الكاتب بمفردات المكان كالخرائب والبرك التى تسكنها العفاريت، والطاحونة والأشجارالقائمة على حواف والمصارف. إنه عالم يستمد جذوره ووعية من ماض ما زال يغذى الحاضر فى حلقات متصلة، وحسب مفهوم تأويل النص وإعادة إنتاج دلالته المتنوعة وربطها بدلالات أكثر عمقا واتساعا على المستويات الجمالية نجد أن الكاتب يشكل عالمه إبان مرحلة طفولته. فوعى الراوى الآن وعى ناضج يدين تلك الخرافات كدلالة عميقة وإن بدا محتفيا بهذا العالم فى حدود وعيه الطفولى، كطفل حين كان مشاهدا وراصدا ومشاركا فى ألاعيب الطفولة "رأيت أغصان الشجر تطرح رؤوس العفاريت.. تتدلى مخيفة مرعبة، عيونها تطق الشرار!!.. ركبنا العربة الكارو ورجعنا إلى البلدة، حكيت للعيال ما شاهدته فى هذا اليوم، بعدها أصبحت الجميزة العجوز التى على الجسر فى طريق الطاحونة تتأوه وتبكى من مسامير العيال التى فى جذعها" ص90.

   ثمة ملامح تعيد إنتاج الخرافة فى وعى الطفل وتلقى بجذورها نحو المستقبل. رغم خيبة الشيخ العراقى فى معرفة مكان اختفاء صبيحة ومغاورى، الشخصيتان اللتان تمنحان الرواية دلالتين هامتين لبكارة الأرض/ صبيحة.. والفحولة والفعل/ مغاورى. إلا أن الطفل يحاول تقليد طقوس السحروالشعوذة ويجهض الجوهر الفعال لؤلاء المشعوذين وإن تمكنوا من استلاب الوعى القروى بممارسة طقوس زرع المسامير فى الشجرة الكائنة أمام داره بحجة ربط العفاريت مما يؤصل للخرافة التى تعيش وتجدد نفسها من خلال وجودها الطقسى ومدلولها الشعبى فى وعى الجماعة، بصرف النظر عن مساهمتها فى إنتاج الفعل وإضافة المعرفة وفى هذا تفريغ وتشريح لخرافة المعتقد كدلالة عميقة فى النص برغم ضاهرية الاحتفاء والتأصيل.

   اتكأ الكاتب على الخرافة والحكاية الشعبية كبنية محركة وفاعلة وموجهة لحركة الحياة والأحداث طوال الرواية وأضاف لها عوامل أخرى على المستوى اللغوى أهمها تشعير العالم أو مجازيته بواسطو أنسنة الموجودات المشكلة له كحجر الرحى الذى يقوم بجولات للبحث عن صاحب الطاحونة مغاورى.. وغيرها من كائنات حية اشجار وحيوانات وأخرى مكانية كانافذة والطاحونة والكبارى.... ألخ.

   يمكن إيجاز كل ذلك فى أنه انسن عالمه/المكان بكل مفرداته وأدخله فى محيط السرد، بل اسند إليه القول والفعل وجانب من وجهة النظر، مما أضفى العجائبية على هذه الرواية "أنا حجر الرحى أرجع مهزوما بعد رحلة البحث وتتبع أنفاس مغاورى، ارض الله واسعة فلا تلومونى.. لقد فشلت.. كانت العيال تزفنى والكلاب تنبح ورائى، وضحاياى كانت كثيرة: فئران. دجاج، بط وماعز وزرع ص92.

   كما تم تفعيل دلالة دلالة شعرية قارة فى الوعى بشكل أصيل ومرتبطة بالعدد سبعة، وهى منتشرة فى الرواية على صورة تعاويذ دلالية فى نفس الآن "انصاف الطيبة قذفت بسبعة قوالب طوب فى عرض الشارع وقالت لعطية الأعرج: أمامك سبعة قوالب طوب بسبعة أسابيع ص 50 ، ويقدم الشباك تعويذة لأمارة أم صبيحة عند مرض ابنتها "قال شباك الحجرة: امرأة لا تحيض تناوليها البنت من خلالى سبع مرات، وتوحدى الله سبعا، وتسبحى سبعا، وتصلى على النبى سبعا" ص 16. فالأحجبة والعملات وأفعال الشعوذة والتنويع على عالم الجن والعفاريت وجنيات البحر وعروسة البحر فتح مجالا فسيحا فى الرواية لتحمل وتعكس معا الوعى الشعبى لعالم القرية.

   لنتوقف أمام الشخصية المحورية المعنونة بها الرواية: صبيحة

   أولا تشكلت تلك الشخصية عبر المعتقد الشعبى بأن البنت هى الكائن الأقل/الأضعف، لذلك تحبسها أمها فى الدار منذ تفتحت أنوثتها وعندما خرجت بعد طول إخفاء يغتصبها السباعى ويهج للخلاء حاملا عار اغتصاب شرف وبراءة القرية. ولا تجد صبيحة مهربا من عارها سوى بتوحدها بالماء فى إشارة إلى فعل طقسى هو مناجاة جنية البحر لها. ويجىء التعليق بعد ذلك.. كل عام البحر له واحدة.. فى إشارة أخرى للطقس الفرعونى عن عروسة البحر التى تقدم بكامل زينتها فى أعياد شم النسيم ضحية وعروسا للبحر وقت فيضانه، ثمة توحد للطقس الفرعونى المتشابك مع الوعى الشعبى فى تحويل صبيحة بعد عام إلى جنية تخرج لمغاورى وتلاطفه وتحقق معه التلاقى والتمازج الذى لم يتوفر لهما فى الظروف العادية.

   لماذا تفقد القرية باختفاء صبيحة خصوبتها؟ ويختفى مغاورى رمز الفحولة الدال بينما يعتلى عطية العرج الوجه الشيطانى- حسب تعبير الرواية- وتابعيه/ أذرعه مساحة للفعل والتواجد حيث يقومون بالحرائق والسرقة والسيطرة على مقاليد القرية بالقوة وبالحيلة حين يدفع عطية بالمرأة التى تطرقع بالمضغة تلك الغانية لتفرد خيوطها العنكبوتية على رجال القرية بجمالها الطاغى فتجاور العمدة وشيخ البلد ومهندس الجمعية الذراعية وتصبح رأسا رابعا مع الكبار.

   ثمة عوامل وشخوص تنخر فى أحشاء القرية مستغلة الطيبة والتسليم القدرى للخرافة والبله وانقيادهم وراء ما يرويه ابن نفوسة العبيط عن أماكن اختفاء مغاورى.

   هذا الطرح لتلك الشخوص يعنى تحويل مسار الفعل الإيجابى حسب وجهة النظر الساردة من أيدى البسطاء إلى آخرين يمثلون الوجه السلبى المستتر بالليل وبالقوة المخترقة لقانون السباعى الذى يسرق العلف ويبيعه بمساعدة شافعى والد صبيحة. تلك هى السلبية النابعة من وجوه الشر فى القرية هى كل مافيها. ذلك وجه عطية الأعرج يمثل طرفا دراميا سالبا والقرية تمثل طرفا آخر ويتولد الصراع بشكله التقليدى بين الشر والخير ويتدفق مع تدفق السرد وشاعرية اللغة وتبادل الرواة مستويات السرد ومقاطع الوحدات السردية زمنيا لتؤدى بالدلالة المركزية باختفاء صبيحة أو تحولها إلى جنية البحر لتبدو أسطورة شعبية يقوم الوعى الشعبى بتنميتها نافيا عنها الزوال وخالقا لها أدوارا أخرى.

   "اختزن المساء كل هذه الثرثرات

  • شَاهَدَتْ امرأة صبيحة فى بلد تلبس ملابس قصيرة وتكشف عن فخذيها.
  • تضع طلاء احمر على شفتيها وخديها والوانا أخرى على جفنيها.
  • تجر خلفها كلبا نظيفا بسلسلة لامعة.
  • شاهدها رجل تتسول، تمد يدها للناس وتلبس جلبابا مقطعا.
  • شاهدها آخر تلبس ملابس الغجر وتهش على الغنم التى تسرح على الجسور" ص66

   فما المانع أن تكون صبيحة كل هؤلاء كدلالة عميقة تعكس التحول الذى عصف بالقرية وخلق من تركيبها مسخا لا تربطه بها أية درجة من درجات الانسجام، وتتحول شخصية صبيحة إلى عنصر دلالى تتجمع حواليه دلات ترجح حدوثه وامتداده فى المستقبل وإن بدا كل هذا فى طى الإدانة الباطنية لتلك التحولات في وعي الطفل/ وقتها الذى يؤسس بكتابته تلك إلى استكناة الخفى والمسكوت عنه حيث يقوم بتشريح الحكاية والمفهوم الشعبى ثم يطرحه للوجود والتفاعل مع القارئ ويحتفظ بخصوصيات وملامح تباعدت حاليا بحكم ثورة الإعلام والتلفزة.... ألخ.

   يمكن القول إن ليس ثمة بطولة بعينها للشخوص فى الرواية، إنما ثمة يطولة للقرية ككيان يتحرك ويسعى وراء المعرفة وفك طلاسم المجهول لزحزحة الوعى المحتشد بالخرافة نحو وعى آخر وذلك بإلقاء الضوء عليه.

   أظن أن البطولة الحقيقية كانت لتلك اللغة التى استفادت اولا من موروثها الشعبى واشعلته بوسائل متنوعة مثل أنسنة الموجودات وتحريك المكان وتفعيله وتحويل مسار السرد له كى ينطق ويشاهد ويسجل تحركات الانسان فى محيطه، وتخبطه وصراعاته الأزلية بين الخير والشر. لكن مم يتولد الشر؟ تؤكد الرواية أن القرية بقسوتها وإهمالها أحيانا لبعض الشخوص مثل عطية الأعرج والسباعى وابن نفوسة تولدت نتاج ذلك العنف فقامت بالعنف المضاد.

   إذن ثمة رؤى أعمق يمكن أن تتولد عبر قراءات متأنية للنص لأنه لم يتوقف امام كلاسيكية المتناقضات، إنما حاول أن يخلق جدلا حول العلاقات والمفاهيم التى انقسمت كالنواة لتتفجر عناصر الدراما وتتصارع الشخوص والمصالح ويتمثل الثابت أمام المتحول فى حالة من الدينامية تهىء الرؤية المركزية للرواية وتصعد بها إلى حالة من النضج.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم