عبدالحميد محمد*

لولا المراهقون لكان علم النفس التربوي في عطالة حقيقية، لكنّ الأمر في الأدب يبدو نقيضاً لذلك بانطلاقه من أزمة الانسان على العموم وليس ككائن إنساني في مرحلة عمرية معيّنة تمتاز بتقلّب نفسي وهويّاتي كسيرورة للنضوج، فالأدب برمزيّته وتأويله شائكٌ في استخلاص العبر لتربية صحيحة.

تتموضع المراهقة بين السنتين 12-20، كفترة انتقالية مضطّربة بين الطفولة وسن الرشد، فيها تظهر آثار التربية الأسرية بشكل أوضح من الطفولة التي لا يمكن فصلها تعسّفيا عن فترة المراهقة، وكان فرويد قد ذهب للقول:

” لا يمكن أن يصبح مربيا من لا يستطيع أن يحسّ بحياة الطفولة تسري بداخله. “، أمّا قيميّاً فقد اعتبر كانط أنّ ” الإنسان لا يصبح إنسانا إلا بالتربية “، منطلقًا من أّن التربية تراكميّة وتستحقّ أنّ يسخّر المرء جهده لحلّها كأكبر مشكلة من جهة وفنّا من جهة أخرى، ومطالبًا بتربية الطفل ليس لأجله بل لتحسين صورة المستقبل.

للرواية إشكالٌ يتمّ تعميقه، والمراهقة قضيّةٌ إشكاليةٌ، غنيةٌ بسيرورتها نفسيّاً وانفعاليا واجتماعيا، أقرب للأزمة، وصولاً لبلورة الذات وبناء شخصية مستقلّة، كتغيّرات أجملها كارل يونغ فيما سمّاه بالميلاد النفسي للمراهق لحدّة الشعور بذاته المستقلّة في مواجهة القيود عليه، ليواجه محيطه بنزعة استقلالية حادة، فيعاود تشكيل ذاته في مواجهة الأبوين وغيرهما، كذات لا تتكوّن إلا في مواجهة الآخر ولا تُميّز إلا في رغبة الآخر كما ذهب إليه لاكان، بينما لكلّ مرحلة عمرية صدمةٌ للميلاد تتعرّف بها الذات على روحها.

أمام ندرة التجارب الروائية التي عالجت المراهقة كواقع نفسيّ متأزّم في نسق اجتماعيّ متساند، تبرز رواية رفيق شامي Eine Hand voller Sterne  يدٌ ملآى بالنجوم، الصادرة عن دار الجمل، بترجمة من كاميران حوج.

ينطلق الشامي من مسألة الحريات والسلطة في فترة الانقلابات العسكرية في سوريا، كتصوّر وإطار عام لسلطة متسلّطة متقاعسة عن مهامّها، فيتقمّص دور مراهق في حارة شامية، تعكس يومياتُه نماذج لسلوكيّات فردية، ليست إلّا تمثّلا لذات التسلّط لدى الشرائح الأضعف من المهمّشين: ” اليوميات تعكس الحياة”.

ابن الفرّان في الرابعة عشرة من العمر، يبلغ السابعة عشرة بانتهاء الرواية، وظّفه الكاتب، ليتحدّث بخطاب أكبر من عمره، رغم خجله الشديد، بما يعبّر عن بعد المسافة بين المراهقين والبالغين:

” أنا لا أكذب دون سبب. أكذب لأنّ البالغين لا يفهمونني”.

ضاهت اللغة في سويّتها عمر المراهق، لكنّ الكاتب نجح في زرع إحساس داخليّ لدى القارئ كمراهقٌ دمشقيّ، يعتدّ بنفسه على طول الرواية، وهذا يُسجّل لصالح المترجم كأمينٍ على إحساس أوصله لعتبة لا تُشعرك أنّ العمل كُتب بالألمانية.

ابن الخبّاز مراهقٌ مسيحي دمشقي، كسلمان المسيحي في (سرّ الخطاط)، رواية شامي اللاحقة، من عائلة فقيرة، وصديقاه وزميلاه في الصفّ المدرسيّ:

جوزيف، يحلم بأن يُصبح ضابطا في الجيش، لكسله وغبائه يربطه الكاتب بالعسكر كأيقونات للغباء، تنفر من العمل المدنيّ.

محمود، مراهقٌ مسلمٌ مبدع، يحلم بأن يصبح كاتباً مسرحيّا، يؤلّف تمثيليّات إذاعية بتشجيع من مدرّس العربية (الأستاذ كاتب) الذي تنطوي عليه الدعاية المحيطة بمؤلّف تمثيليات يعمل في الإذاعة بدعم من عسكر الانقلابات، كمشجّع للمواهب الجديدة، وبتوصيّة منه يذهب محمود بتمثيليّته التي أبهرت المدرّس الطيّب وابن الفرّان معاً، إلى الإذاعة المحاطة بالدبّابات فيذيعها المؤلّف المزعوم أثناء الدوام المدرسيّ ويُنسبها زوراً لنفسه، في دلالة على جهلنا بمواهب المبدعين من المراهقين وسرقتها إن استطعنا.

ابن الفرّان يحلم بأن يغدو صحفيّا لكنّ والده يجد المدرسة لا تعلّم سوى الحماقات، فيُخرجه منها لحاجته لشغيل في الفرن، وتراكم الديون عليه، فيفكّر بالمغادرة لحلب ليلاَ، ليمنعه صديقه السبعينيّ العم سليم صاحب النكتة والحكمة، فيكلّفه والده توزيع الخبز لزبائنهم المقتدرين ماليّا، فيتعرّف على مريم التي تخون زوجها لإشباع رغباتها الجنسية مع الصحفي الخمسينيّ حبيب الذي تنشأ بينه وبين الراوي صداقة متينة فيستقبله مع حبيبته وجارته ناديا ابنة مخبر الحارة.

المراهق منبوذٌ من الأطفال إذ يعدّونه كبيراً، فتغار منه شقيقته ليلى، ومنبوذٌ من الكبار إذ يعدّونه صغيراً:

“البالغون يسيطرون على البيوت أما الشارع فهو ملكنا”

يكتشف هويته خارج الأسرة مع الرفاق في عصابة (اليد السوداء) لإحقاق العدالة، فترعب الانقلابيين وتقترح تهديد الفرّان لإعادة ولده للمدرسة، إذ يرفض ولده أن يبقى خبازاً كأبيه: ” المخبز يقتلني. ما هو مصيري؟ “

ويصدرون جريدة (الجوارب)، للدفاع عن أطفال الفقراء المتسرّبين من المدرسة، بتأثير من حبيب: ” الكلمة واجب كلّ إنسان. لا تتركها للحكومة “

هي الحكومة ذاتها التي تسدّ كلّ نوافذ التغيير والتأثير القادمة من الخارج، فيزجرها ابنّ الفرّان: ” حكومةٌ غبيّة “

لكنّه يقيم علاقة صداقة حميمة مع (روبرت) السائح الأوربي، ليمدح نهج الأوربيين في حظر تشغيل الأطفال.

محمود، بعد تركه المدرسة، يطالب بتغيير الأدوار بين الآباء والأبناء، وكأنّه قارئٌ لفرويد: “الطفل أبو الرجل”، ممتعضاً من أبيه العاجز عن إطعام تسعة أفواه:

” يأتون بأولاد إلى الدنيا ثم يشتكون. يقتل الفقر أحلامنا في مهدها “

يتركان المدرسة بينما يتابع جوزيف الغبي الحالم بعالم العسكر، وهو لا يفهم مفهوم الزواج الذي سمح لوالده بإنجابه في عملية جنسية مع والدته.

يُعوّض ابن الفرّان خروجه من المدرسة بالشعر، فتصدر له قصائد شعرية في كتاب لأشعار الشباب، بعنوان قصيدته: (الشجرة الطائرة).

محمود يعمل نادلاً في بار ليليّ أشبه بماخور يرتاده الانقلابيون، وكان خليل (زميلهم في الصف) ترك المدرسة بسبب مدرّس العربية السابق:

” أعطاه المعلم علامة اثنين وقال إنه “خرج عن الموضوع”. في اليوم التالي لم يأت خليل إلى المدرسة ويعمل الآن صانعا لدى ميكانيكي سيارات.”

يُحمّل الشامي مسئولية إحباط المراهقين لمجموعة متكاملة من الأسباب في النسق الثقافي والاجتماعي، فلا يعفي المدرسة والمعلّمين والآباء من خذلانهم وتجاهل طاقاتهم ومواهبهم، والتعامل بنمطيّة وكأنّهم متشابهون كلّهم.

والدته المتديّنة تمنّت أن يصبح خوريّاً لا يفارق الكنيسة، ووالده الذي أصرّ على إخراجه من المدرسة، لم يصبح فرّاناً بمحض إرادته، لكنّه كمن يصرّ على إعادة تجربته مع ولده المتفوّق:

” أنت الأوّل؟ هذا جيّد لكنّ المخبز منجم ذهب “

ثم يعود لاحقاً ليحتفل بولده شاعراً: ” هذا هو شاعري الصغير”

ناديا كانت تحلم أن تصبح طبيبة لكنّها انصاعت لرغبة والدها، فعملت في مكتب محاماة قريب من بيت حبيب، لتلتقي ابن الفرّان وتمتدح خبراته الجنسية:

“عندك خبرة كثيرة، ها”

خبرةٌ اكتسبها من ارتياده لسينما العباسي الذي كان يعرض فيلماَ إباحيّاً كلّ شهر، بعد دفع رشوة للشرطة كثمن لتغضّ النظر، يرافقه محمود ليكتشفا أنّ استاذ الرياضيات يواظب على الحضور.

يُشعرك الكاتب وكأنّه خبر بنفسه عوالم المراهقين، مستعيناً بأوان الحاضر والتاريخ أيضاً، ضمن عالم من الرموز والإيحاءات اللغوية والاجتماعية، وأنساقٍ اجتماعية متمايزة في مشاعرها وطبيعتها وطريقة تعاملها مع المراهق، تحرّكها سلطة في الرقابة والتوجيه، تتناسب طردا والظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بها.

أسلوب اليوميّات لم يأتِ عن عبث بل إدراكا لأهمية الشكل الذي تخرج به روايةٌ تتوجه للشباب وللمراهقين، فأتت مقاطع تحاذر الإطالة، لتتناسب وإمكانيّاتهم وحساسيّتهم المفرطة، وتواري ما لا يناسب أعمارهم من خطاب.

لنمنح قلم الرصاص لابن الخبّاز وليدوّن ما يعتلج في قلبه، بعد أن تحتضنوه بقلوبكم.

*كاتب من سوريا مقيم في ألمانيا.

nenoush@gmail.com

عن موقع رامينا نيوز

nenoush@gmail.com

عن موقع رامينا نيوز

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم