إبراهيم العريس

تقول الحكاية، ودائماً لدى الحكايات ما تقوله حتى من دون أن يكون ما تقوله دقيقاً، أن الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي لم يكن يريد من ناحية مبدئية أن يحترف كتابة الرواية. لكنه ذات يوم إذ وجد نفسه مثقلاً بديون لا يعرف من سبيل لسدادها، وجد أمامه فرصة سانحة لكسب بعض ما يحتاجه من مال عن طريق نشر رواية مسلسلة، وكانت الروايات المسلسلة على الطرقتين الإنجليزية (ديكنز...) والفرنسية (فيكتور هوغو....)، رائجة يتخاطف القراء الصحف التي تنشر حلقاتها، قرر أن أسرع طريقة لتحقيق بعض الربح تكمن في كتابة رواية. وهكذا كتب روايته الأولى "الفقراء" وهو لا يكف عن إبداء الامتعاض. ولئن كان دوستويفسكي قد أعلن في ذلك الحين "أننا جميعاً إنما خرجنا من معطف غوغول" وأبدى اعتقاده بأبوية بوشكين للأدب الروسي الحديث، فإنه "لغيظه" لم يتوانَ عن توجيه سهام نقده داخل نص هذه الرواية للاثنين معاً. ومع ذلك يقول النقاد ومؤرخو الأدب عادة أن رواية "الفقراء" تدين بالكثير لهذين الرائدين الكبيرين مبدين دهشتهم لموقف الكاتب الشاب منهما.

 مهما يكن، ستشكل تلك الرواية التي أنجزها دوستويفسكي بين عامي 1844 و1845 لتنشر للمرة الأولى في دورية "مجموعة سانت بطرسبرغ" التي كان يصدرها نيكراسوف، نقطة الإنطلاق التي سيغزو الكاتب من خلالها عالم الأدب ويصبح منذ ذلك الحين وبالتدريج، واحداً من كبار الروائيين الروس بل واحداً من كبار روائيي العالم في زمنه وفي الأزمان كافة. صحيح أن قراءة "الفقراء" لا تعد كثيراً بذلك، لكنها ستمهد لولادة ذلك الكاتب الاستثنائيّ.

يا لهؤلاء القصاصين!

ولعل الطريف هو أن الكاتب يفتتح روايته بفقرة ينسبها إلى الأمير أودويفسكي ستبدو في الإطار هنا لافتة بل حتى واضحة في استفزازيتها. يقول الأمير: "يا لهؤلاء الكتاب القصاصين. إنهم بدلاً من أن يقصّوا علينا شيئاً نافعاً ممتعاً، مريحاً، يهتكون جميع أسرار الحياة على الأرض ويزيحون الحجب عن جميع مبائس الوجود! ولو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة! فكروا في النتالئج التي يؤدي إليها هذا: إن المرء يقرأ ما يكتبون، فإذا هو على غير إرادة منه يأخذ يتأمل... وإذا بجميع الأفكار العجيبة المستحيلة تغزو رأسه. حقاً لو كان الأمر لي لنهيتهم عن الكتابة، أو لمنعتهم من نشر ما يكتبون!". ترى هل ما ينقله دوستويفسكي هنا وعيد أو فعل إيمان؟ هل تراه يتبنى القول أم أنه يضع الحقائق صريحة أمام قارئه ويتركه لمصيره؟ في الأحوال كافة سيبدو غريباً هنا على أية حال أن يكون كاتبنا قد انطلق في مشروع روائي طويل عريض بمثل هذا القول. لكن ما يبرره هو أن ما فيه ينطبق مسبقاً على كل ما سوف يقوله دوستويفسكي ليس في تلك الرواية الأولى فحسب، بل في مجمل نتاجه الروائي الذي سوف يربو عما لا يقل عن دزينتين من أعمال كبيرة شامخة. حتى وإن كان من يقرأ "الفقراء" لن يمكنه أبداً أن يتصور روعة ما سيليها بدءاً من تاليتها "القرين"، مروراً بأعمال مثل "الجريمة والعقاب" و"الليالي البيضاء" و"الأبله" و"المراهق" وصولاً طبعا إلى "الإخوة كارامازوف".

بيد أن الناقد الروسي الكبير بيلنسكي لم يكن من رأينا فهو إذ كان من أول الذين قرأوا "الفقراء" عام صدورها صرخ إعجاباً بكاتبها وبأدبه الكبير، حتى قبل أن يعرف أنه لا يزال شاباً في السادسة والعشرين. وهو كان من أوائل الذين رأوا تماثلاً بين أكاكي أكاكيفتش بطل "المعطف" لغوغول، وماكار ديفوشكين بطل "الفقراء". فالإثنان ينطلقان من التمسك بـ"مثل أعلى" واحد: ففي مقابل معطف أكاكيفتش هناك الحب والرحمة لدى ديفوشكين يحركان حياته ويمليان عليه تصرفاته.

لكن قد يكون المفيد هنا أن نتوقف عند هذه الشخصية التي كانت من أوائل تلك الشخصيات الرائعة والعميقة التي ابتكرها دوستويفسكي، من دون أن يفوتنا أن نذكر أنها سوف تكون لاحقاً الأساس الذي سيبني عليه الكاتب تلك الشخصية الرائعة التي سيكونها الأمير ميشكين بطل "الأبله".

"المعطف" كتاب المهانة!

يُقدَّم ماكار ديفوشكين إلينا منذ البداية من خلال رسائل يتبادلها مع قريبته الصبية باربارا التي تعيش الآن في سانت بطرسبرغ بعدما تركت ريفهما المشترك الذي لا تحبه كثيراً. ولئن كانت الرسائل في البداية لا تنم عن أكثر من قرابة، بعيدة بعض الشيء، وصداقة تزدهر مع مرور الوقت وتبادل الرسائل، فإنها سوف تكشف لاحقاً عن حكاية حب تقوم بين الاثنين من دون أن يجرؤ أيّ منهما على الاعتراف بها. بخاصة ديفوشكين الذي يشعر دائماً أن ليس لديه الكثير يقدّمه إلى الصبية فيفضل لها وإن ضمنياً، أن ترتبط بمن هو أفضل منه. وهي من ناحيتها إذا كانت تبدي في رسائلها التي غالباً ما تكون جوابية، الكثير من التحفظ حياله، فإنها ستحس بالتدريج أنه بات يشكل جزءاً من حياتها ليس من السهل الاستغناء عنه. غير أن التعبير عن تنامي العلاقة بينهما سوف يتخذ شكل تبادل هدايا صغيرة خلال زيارات قليلة بينهما إذ إنهما يعيشان في حيّ واحد. وغالباً ما تكون الهدايا كتباً. وسيحدث ذات مرة أن يشعر دوفشكين بشيء من المهانة حين تهديه نسخة من "المعطف". لماذا؟ بكل بساطة لأن قراءته رواية غوغول ستنبهه إلى كم أن وضعه يشبه وضع بطل الرواية أكاكي أكاكيفيتش، ويتساءل عما إذا كان مقصوداً من ناحيتها أن تذكّره بوضعه من خلال الرواية؟

poor-folk-46.jpg

غلاف واحدة من الترجمات الإنجليزية للرواية (صفحة الكتاب)​​​​​​​

بؤس الرسالة الأخيرة

لكن العلاقة عبر الرسائل بينهما سوف تتتابع حتى وإن كانت باربارا ستخبره ذات لحظة أنها ستنتقل إلى حي آخر من المدينة حيث لديها حظوظ بأن تعمل مربية، يشعر ديفوشكين أن ثمة غدراً به في ذلك الانتقال بخاصة أن وضعه المالي لا يسمح له بأن يقدم لها أية مساعدة تردعها عن قرارها. لكن فجأة يشفق رئيسه في العمل لحاله ويعطيه مئة روبل تجعله ثرياً بعض الشيء، فيسارع من فوره الى إرسال جزء من المبلغ إلى فاتنته التي سرعان ما ترد له جزءاً كبيراً مما أرسل معلنة أنها في الحقيقة ليست في حاجة إلى ذلك المال. وتكون النتيجة أن يشعر صاحبنا بضربة خنجر جديدة حتى وإن كان الوقت لا يزال أبكر من أن يجعله يتساءل عما إذا كان ذلك التصرف إيذاناً بنهاية "العلاقة" بينهما. في المقابل كانت هي تملك جواباً لو أنه سألها، وسوف يكون عملياً. فهو يرسل إليها في نهاية الأمر رسائل لا تجيب عنها إذ هي منهمكة، كما تخبره، في تجهيز نفسها لـ... الزواج الذي كانت تحدّثه قبلاً عن المشتريات المتعلقة به وكأنها تحدّث صديقة حميمة عن شؤون سعادتها! فيكتب لها في نهاية الرسالة الأخيرة: "أواه يا يمامتي، أودعك الله أودعك... ناشدتك الله، أجيبي عن رسالتي هذه، أجيبي بأي شيء ولكن لا تدعيني أنتظر طويلاً". وباربارا ستجيب عن هذه الرسالة بالطبع ولكن لتقول له: "تحققت مشيئة الأقدار. تقرر مصيري. أنا أجهل ما سيكون هذا المصير... ولكنني أذعن لإرادة الرب. سنسافر غداً. أودعك الآن آخر مرة يا صديقي العزيز، يا من أحسنت اليّ وكنت بمثابة الأب! لا يؤلمنك سفري... عشْ سعيداً. تذكرني...".

باختصار تقول باربارا في الرسالة الأخيرة هذه أن كل شيء بينهما قد انتهى حتى وإن كانت تعرف أنه لم يكن ثمة في الحقيقة شيء بينهما. أما ديفوشكين فيقول لها في رسالته الأخيرة التي من المؤكد أنها لن تصل أبداً إلى باربارا إنه يحبها – وهو ما لم يكن قد قاله أبداً بمثل هذا الوضوح من قبل – وأنه سيموت حين يتركها.

هكذا تنتهي تلك الرواية الأولى التي كتبها دوستويفسكي. رواية قد لا يكون من الصعب أن نرى فيها إرهاصات بنائه المحكم للشخصيات ولخيبة العلاقات ضمن شرط إنساني سيتطور لديه من رواية إلى أخرى، هو الذي لم يكن يريد أن يخوض المغامرة الروائية أصلاً!

عن إندبندنت عربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم