د. مسار غازي

أُتيحت لي فرصة قراءة سبع من روايات الروائي العراقي المغترب "محمود سعيد" الموصلي الأصل وهي: زنقة بن بركة ، هزائم وانتصارات، الموت الجميل، لست الأول ، صيد البط البري، الشاحنة وهي نصوص انمازت برصانتها وهي تضرب في عمق الكينونة العراقية، وقد سرقتُ مؤخرا من الوقت بعضه لقراءة روايته (الدنيا في أعين الملائكة) التي أغدق الكاتب عليها بلمسات معبرة، وثرة بالمعلومات السوسيولوجية، والتأريخية ، والفلكلورية لمن يروم الرجوع إلى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ودراسة أوضاع العراق ، والموصل على وجه التحديد، إذ دون السارد/ محمود/ وهو طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره بأمانة وعفوية رصينة زخما من جوانب الحياة آنذاك بفقرها وغناها، بخيرها وشرها ، بجهلها ومعارفها، وعمد الكاتب بحنكةٍ وذكاء إلى اختيار الأرضية المناسبة ليفرش عليها ما يجول في خاطره ، وما يعتمل به فكره، الموصل المدينة العريقة حيث منبت جذوره ، إذ كان شاهدا منذ نعومة أظفاره على كل الأحداث بحلوها ومرها التي مرت على تلك المدينة التي تمثل معادلا موضوعيا للوطن /العراق/ ، وقد اتخذ الكاتب من سوق (العتمة ي1) بؤرة مركزية للسرد، وهو أحد أسواق مدينة الموصل، وقد يقفز إلى ذهن المتلقي سؤال مفاده لماذا سوق العتمة دون غيره ؟!

  المجتمع العراقيّ في عمومه والمجتمع الموصلي على وجه التحديد هو مجتمع فسيفسائي متعدد ومتنوع الأعراف والأديان والقبائل والطوائف واللغات من جهة، وفيه كثير من الصراعات والانقسامات والخلافات والاختلافات من جهة أخرى، وسوق العتمة كان المكان الذي تلتقي فيه كل تلك المكونات. كما جاء على لسان السارد محمود(( يصحبني سامي كل يوم أمرّ فيه على دكان أبي صحبته لأنه يطلعني على عالم السينما...سيخلف أباه في الدكان كبقية أصحاب الدكاكين من مسلمين ويهود ونصارى ... معظم زبائن سوقنا من القرويين العرب والتركمان والأكراد والآراميين والآثوريين واليزيدية ، واليهود/ الرواية33-43)، وقد عمدَّ الكاتبإلى وضع الاحداث والشخوص داخل  فضاء البراءة والصفاء في سردية سيروائية ذات لغة شاعرية للسير بالنص بعيدا عن كل المنغصات العرقية والقبلية والمذهبية ، واظهار الناس كلهم شيعًا وطوائف وأديانًا تجمعهم وحدة المصير ، والمواطنة والانتماء  إلى الوطن الواحد متجاوزين النعرات الطائفية  والنزعات العصبية ، والتطرف الفكري من جهة، ومن جهة أخرى للتأكيد على دور التنشئة الاجتماعية، إذ تعد الأسرة هي الخلية الأساسية الأولى التي ينشأ الفرد في أحضانها ، فتعمل على إشباع حاجاته ورغباته  ، وقيمه ، ووعيه بالحاضر، والحفاظ على هويته الثقافية التي تنقل له من الأجيال الكبيرة ، وتنمية وعي الأفراد بالحاضر والمستقبل يتطلب الارتقاء بثقافتهم الاجتماعية ، وتلك غاية تسعى المجتمعات إلى تحقيقها بوساطة عمليات التنشئة الاجتماعية. هو ما يؤكده كلام الطفل "محمود" وهو ابن احد رجال الدين المسلمين الذي كان يسمح له بصحبة ابناء اليهود والدخول إلى منازلهم ومشاركتهم الطعام (( بعض زملائي في المدرسة كانوا يرددون أن اليهود يذبحون الأطفال ويستعملون دماءهم في طقوس دينية ، لكن سماح أبي بالأكل معهم وهو المتدين يعني أن ذلك ليس سوى هراء / الرواية 98)) ،فالتنشئة الاجتماعية هي عملية تربية وتعليم وتمرين وتقييم وترسيخ وسائل الضبط العُرفية، والقانونية التي تفرضها الثقافة السائدة ، وتساعد على اندماج الفرد في الاطار الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه ويتمثله في شخصيته ، وعليه فالشخصية بصورة عامة هي صنعة من صنائع الثقافة السائدة. فالفرد يكتسب القيم والمعايير وطرائق التفكير الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه ويتمثله في شخصيته .

 وبوساطة علاقات الطفل "محمود" المتعددة مع ابناء الأقليات "مادلين" من اسرة مسيحية ، و"سامي وسمية" من أسرة يهودية، و"سَلم، ونور، وشفق، والست خديجة" شخصيات مسلمة، يلوح لنا النص الى الفرق بين عراق الأمس وهو ليس بالبعيد حيث كانت مكوناته حينذاك تسير على خط أفقي لا فرق بين مكون واخر، الجميع منتمٍ إلى هوية واحده وهي هوية الوطن والمواطنة ، على خلاف عراق اليوم حيث اصبحت العلاقات فيه تتخذ منحىً عاموديًا ، علاقات فوقية استعلائية اساسها العصبية التي تجد لحمتها في التعصب الذي يتجلى في الانشطار المثالي بين داخل طيب وخير ومثالي، وخارج شرير سيئ ، وهو مما يؤدي وبحسب الدكتور "مصطفى حجازي" الى  انتزاع العلاقة بين الداخل والخارج ، فبدلا من أن تكون الجماعات والفئات المجتمعية في حالة تنافس وتفاعل وصراع خلائقي ، كما هو الحال في النظم المفتوحة على الخارج والتي تتغذى منه وتغذيه، تتحول العلاقة الى صراع وجود وعداء ، صراع الهويات المتحالفة ضد خصومها . حروب التصفيات العرقية أو الطائفية هو الذي يفتح فيما أخذ يُعرف باسم (حروب الهُويات) تلك الحروب إن كانت ستؤذي؛ فإنها تؤذي الكيان الوطني ذاته، بما هو إطار جامع يوحِّد التنوع والاختلاف، ضمن هوية وطنية ومشروع كيان يجد الجميع مكانا لهم فيه، مع الاحتفاظ بخصوصياتهم الفئوية ومصالحهم الخاصة ، في حالة من التنافس والصراع ضمن المجال العام الجامع، العصبيات والطائفية يمكنها بناء سلطة لكنها لا تبني وطنًا يتجاوزها، بل على العكس تساهم في هدر كيان الوطن من الداخل مما يفتح المجال لسطو القوى الخارجية عليه وسرقته سواء بالاحتلال أو بالاستغلال أو بهما معًا .

ولا يفوتني القول إن الرواية باختصار جديرة بالقراءة والتأمل؛ هي شهادة مهمة لعراق جميل لم يكن ببعيد عنا ، والتأمل فيما حلَّ به اليوم من تناحر وانقسامات وعلى كافة الاصعدة  السياسية ،والاجتماعية والعقدية لقد استمتعت بقراءة هذه الرواية لدرجة أني وجدت نفسي أكتب عنها دون تخطيط مسبق للكتابة ؛ ذلك أنها تتسم بانتقالات بينية، تمنح فرصة التعبير والتغيير بين الحزن والفرح، بوساطات تلك اللفتات الجميلة والحوارات المنعشة واللقاءات البريئة بين محمود وأصدقائه ممن كانوا في مثل عمره أو يكبروه قليلاً.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم