مصطفى عبيد

دوحة التاريخ ثرية، وغاصة بثمار الحكي. فيها قصص مُستعرة بالوجع الإنساني، حُب وكراهية، غدر ووصل، صعود وهبوط، ونماذج مُدهشة. هي حزم جمال أخاذ يُمكن سكبها على الورق أدبا روائيا جذابا. ليس على الروائي سوى أن يمد أصابع فنه ليقتطف حكاية فيغسلها، ويُجففها، ويُهذبها ثُم يُقدمها للقارئ.

القارئ اليوم أكثر انشغالا بالزمن الماضي، يحاول أن يخوض بخياله في حقب غير مكتملة الأركان، ليُعيد تشكيل مواقف وأحداث قد تبدو هامشية، فيلونها، ويرسم بها منظرا جديدا خلابا وجديرا بالخلود.

وبوعي بهذه المسألة يلجأ الكثير من الأدباء للتاريخ ربما ترميزا للآني، أو هروبا منه، وربما سعيا وراء سحر غامض يسكن الماضي ويشعر الناس بالحنين إليه، أو لاستمالة القراء.

التاريخ البديل

تتسق الروايات ذات الخلفية التاريخية، مع الأحداث الحقيقية في ما هو رئيسي من أحداث، فتلتزم بحقيقة ما جرى بقدر الإمكان. وبهذا المنطق المفهوم، فإن أي عمل روائي يتناول زمنا ماضيا يسبقه بالضرورة بحث تاريخي مُضن يحرص كافة الروائيين على إتمامه.

ذلك مطروح وقائم وذائع في عالم الرواية العربية، ومنذ البدايات المبكرة للرواية التاريخية على يد جرجي زيدان، ومَن خلفه من الروائيين الرواد وما تبعهم من أجيال، فهناك التزام بما جرى من وقائع وحرص شديد على عدم قلب الحقائق أو تغيير مجرى الأحداث.

لهذا، فإن جانبا من نقد النقاد المقدم لبعض الروايات قد يُركز أحيانا على عدم مطابقة نص ما لحقيقة تاريخية يتصورونها ثابتة.

"الرجل في القلعة العالية" تصور خاص حول انتصار دول المحور بقيادة ألمانيا في الحرب العالمية
"الرجل في القلعة العالية" تصور خاص حول انتصار دول المحور بقيادة ألمانيا في الحرب العالمية

ما يغيب تقريبا عن عالمنا عكس ذلك، وهو التاريخ البديل أو الآخر، بمعنى أن نهجر ما حدث إلى ما لم يحدث، أو نطرح افتراضا مستحيلا ونبني عليه قراءة مغايرة للمجتمع والأحداث، أن ننفي حدثا حدث بالفعل، أو نثُبت أمرا فشل، لنُعيد صياغة حيوات البشر وما حولها من تفاعلات.

بكلام آخر نُحرر الخيال تماما، ونتركه يمارس صناعته التخليقية الجديرة به، ويُشكل قصصا جديدة، ومواقف لا نعرفها، وأحداثا لا نتوقعها.

لو فكرنا في التاريخ معكوسا لوجدنا كنوزا دفينة، ولو أعملنا رؤوسنا في الافتراضات الخاطئة لوجدنا أرضا خصبة لزروع شتى من الإبداع الروائي، ولو تساءلنا ووضعنا لخيالاتنا وطاقاتنا الروائية أطرا جديدة من التصورات العكسية لأمكن لألف رواية ورواية مُبهرة أن تولد.

نحن أمام تساؤلات جمة يُمكن صياغتها من عينة ما الذي كان يُمكن عليه أن يكون وضع العالم العربي، لو سار اليهود في طريق تأسيس دولتهم في الكونغو بدلا من فلسطين؟ ما هو حال الدول العربية التي لم تخض حروبا ضد إسرائيل ولم تعان صراعا طويلا معها؟ وهل هي علاقات سلام ومودة أم عداء وكراهية؟

إذا افترضنا أن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر لم تقم، وأن واحدا من الضباط الأحرار أبلغ القيادة العامة بموعد التحرك، وتم القبض على الضباط الرئيسيين في التنظيم، وقدموا للمحاكمة العسكرية بتهمة التآمر، كيف كانت نظرة الناس لهؤلاء الضباط؟ وهل كان سينظر إليهم كأبطال أم خونة؟ وما هو مصير كل قائد من قادة التنظيم؟ هل سينالون عفو الملك أم لا؟ وإلى أي مدى كانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبلاد ستتغير؟ وإلى أي مدى سيكون لذلك تأثير على الساحة العربية والمحيط الإقليمي؟

يُمكن توسعة الفرضيات لتشمل أسئلة من أمثلة، ما الذي كان يمكن أن يحدث إن ظلت الوحدة بين مصر وسوريا قائمة حتى اليوم؟ ما الموقف العربي إن لم يقم الرئيس العراقي صدام حسين بغزو الكويت سنة 1990، وتم إنهاء الخلاف وديا؟ ماذا كان سيحدث لو لم تقع أحداث 11 سبتمبر 2001 في أميركا؟ وماذا لو لم تقم ثورات الربيع العربي؟ وغيرها من التساؤلات التي تطرح القراءة البديلة للتاريخ بشكل روائي قائم على الخيال.

لم تغب هذه الفكرة عن كبار المبدعين في العالم شرقا وغربا، ففي الأدب العالمي نماذج عديدة لإطلاق سراح الخيال ليعبث كما شاء، ويفترض كما أراد، ويكفي أن كل طرح للتاريخ البديل يشهد إسهامات متنوعة تمثلها الكثير من الأعمال المبهرة.

 من أبرز الأمثلة على ذلك تصور انتصار دول المحور بقيادة ألمانيا على الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939ـ 1945)، وهو ما كان معينا لمبدعين كُثر خاصة في أميركا ليُقدم كل منهم تصوره.

من بين تلك الإسهامات روايات مثل “الرجل في القلعة العالية” للكاتب الأميركي فيليب ك. ديك، و”الحلم الحديدي” للكاتب الأميركي نورمان سبينراد، ومن بعدها “سفينة الفضاء باتون” للروائي الأميركي جون بارنز، “القائد الفاتح” لجون روبرتس، و”خطة مدغشقر” لـغي سافيل.

خيال علمي

في رواية “الرجل في القلعة العالية” تدور الأحداث في الستينات من القرن الماضي، لتُلحق دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) بالولايات المتحدة وحلفائها أكبر هزيمة في التاريخ، ومن نتائجها تقسيم أميركا بين الألمان واليابانيين، إذ يسيطر الألمان على الشرق الأميركي، بينما يسيطر اليابانيون على الغرب. ويهيمن المنتصرون تماما على بلاد العم سام، وعلومها ومراكزها البحثية، ويقومون بحملات إبادة جماعية ضد السود والزنوج.

 تقدم الرواية تلك الأجواء من خلال حكايات متشابكة لشخوص كثر يعيشون في إحدى قرى كاليفورنيا، منهم مثلا تاجر تحف بكاليفورنيا مُكلف من أحد اليابانيين ذوي النفوذ بالحصول على مسدس من زمن الحرب الأهلية الأميركية، ويبذل كل جهد خوفا من غضب الحكام اليابانيين وحلفائهم من الألمان، والذين تصورهم الرواية كمستغلين وسارقين للإبداع والفن.

في الوقت ذاته يعيش في المنطقة كاتب مختلف يكتب رواية خيال علمي يتخيل فيها تاريخا مغايرا، وتجتذب روايته الناس من كل مكان ومنهم قراء كثر من المحتلين اليابانيين والألمان أنفسهم، ما يدفعهم تدريجيا إلى السير في طريق النقمة على نظام الحكم، والسعي إلى الاحتجاج السياسي، والتعاون مع الأميركيين لتخليص العالم من قمع وقهر المحتلين.

مثل هذا الطرح رغم سذاجته وافتعاله يُقدم نمطا جديدا يُمكن أن يمثل إغراء لجمهور الإبداع في العالم العربي، لاتكائه على فكرة تشغيل الأدمغة، وتقييم الوقائع التاريخية بمعيار الحدث البديل.

حاولت بعض الروايات العربية الحديثة والمعاصرة طرح أفكار خيالية لأحداث لم تقع في محاولة رسم واقع خيالي، لكنها جميعا انطلقت من الحاضر لقراءة المستقبل غير المعلوم وليس الماضي المعكوس، ومن أوائل الإسهامات في هذا المجال قصة الكاتب المصري محمود خليل راشد التي أصدرها سنة 1915 بعنوان “مصر سنة 1950”، وهي عمل بدائي توقع فيه الكاتب انتشار المدارس الثانوية والجامعات في مصر وعمل خطوط جوية للمنطاد، ومد خطوط الترام والسكة الحديد في ربوع البلاد.

بعض الروايات العربية الحديثة والمعاصرة حاولت طرح أفكار خيالية لأحداث لم تقع في محاولة رسم واقع خيالي

 تتالت بعد ذلك قراءات المستقبل في روايات جيل الأدباء الرواد في مصر، مثل توفيق الحكيم، سلامة موسى، مصطفى محمود، ويوسف عزالدين عيسى، ثم سعد مكاوي، وحسين قدري، وصبري موسى، وأميمة خفاجي.

وسعى الجيل التالي لفتح مسارات أوسع للخيال في طروحات غير واقعية ومُستحيلة، وإن كانت لم تنل حقها من الاهتمام النقدي، إذ اعتبرها النقاد وقتها شطحات غير مقبولة أقرب إلى الفانتازيا، وأبرز تلك الأعمال رواية صغيرة الحجم  لروائي مصري غير ذائع، هو بكر الشرقاوي، وهي رواية “وقائع ما حدث في يوم القيامة بمصر” نشرها سنة 1987، ثُم أعيد نشرها مرة أخرى بالقاهرة سنة 2017.

تقوم فكرة الرواية على أن تمثال رمسيس الثاني القائم في أحد ميادين القاهرة يحزن لما وصلت إليه أحوال المصريين، فيتحرك من مكانه، ويذهب إلى ضريح الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ويُناديه ليستيقظ ويُصحح الأوضاع المتدهورة، وبالفعل يستجيب عبدالناصر ويعود إلى الحياة، ويغادر ضريحه، ليُعيد بث أفكاره من جديد عبر كتابة جزء ثان من كتابه “فلسفة الثورة”، وينتقل من مكان إلى آخر منتقدا الأحوال وداعيا الناس للتحرك لرد كبرياء مصر وإعادة الحقوق، وتجديد العداء مع دولة إسرائيل.

 هناك أيضا قصة للقاص عمرو النيال بعنوان “الحملة المصرية” في مجموعة حملت العنوان ذاته، صدرت بالقاهرة سنة 2011 عن دار الرواق للنشر افترضت أن مصر قامت في زمن ما بتجهيز حملة عسكرية كبرى لغزو فرنسا واحتلالها وفرض قوانينها وثقافتها وعاداتها على الفرنسيين. تتخيل القصة أن سلطات الاحتلال المصرية قامت بخصخصة برج إيفل، وإعلان حظر جماعة الإخوان الفرنسيين، واستبدلت الإدارات الفرنسية بالبيروقراطية المصرية العتيدة، وتتصور القصة أن لوحة الموناليزا تعرضت للسرقة، فضلا عن الكثير من السيناريوهات الساخرة، مثل تغيير اسم مهرجان كان السينمائي إلى “كان زمان”.

ورغم سذاجة الطرح وخفته، فقد بدا نمطا مغايرا لافتراض معكوس يُمكن من خلاله نقد الواقع المصري بشكل جذاب، أو طرح تساؤلات مدهشة بشأنه.

بشكل عام أرى أن ملعبا واسعا للتجريب الروائي يفتح أبوابه أمام المبدعين العرب، ورغم بدائية الاجتهادات السابقة، وضعف بعضها الفني، فإنها تصلح كنقطة انطلاق لمحاولات تجديد أخرى تتجاوز التاريخ الحقيقي إلى التاريخ المغاير بما يُضفي قدرا من المتعة وقدرا من الدهشة.

وإذا كان الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل يتبني موقفا مضادا من فكرة “ماذا لو” فيقول في صرامة “لو كان شيئا من الممكن أن يحدث لكان حدث”، على المبدعين كسر كل قانون فلسفي، لأن الإبداع حرية، والحرية مطلقة.

عن العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم