هيثم حسين

من الصعب أن تكتب رواية حول الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا وهذا الرهان الذي نجح فيه الأميركي إرفين د. يالوم بحبكه لقصّة تجمع بين زمنين، انطلاقا من حياة وفكر سبينوزا الذي أدت فلسفته إلى نبذه وإقصائه من الطائفة اليهودية، بالتوازي مع قصّة صعود وسقوط المنظّر النازي ألفريد روزنبرغ، الذي أمر فرقته بنهب محتويات مكتبة سبينوزا القديمة.

يمزج الأميركي إرفين د. يالوم في روايته “مشكلة سبينوزا” الواقع بالخيال ليحبك عالما دراميا مبنيا على حكاية المفكر باروخ سبينوزا الذى عاش في القرن السابع عشر، والذى أدت فلسفته إلى نبذه وإقصائه من الطائفة اليهودية، وذلك جنبا إلى جنب مع قصة صعود وسقوط المنظر النازي ألفريد روزنبرغ، الذي أمر فرقته بنهب محتويات مكتبة سبينوزا القديمة بهدف التوصل إلى حل لمشكلة سبينوزا.

يلفت في مقدمته لروايته الصادرة عن منشورات الجمل بترجمة خالد الجبيلي، إلى أنه لطالما كان مفتونا ومعجبا بسبينوزا، وكان يريد منذ سنوات أن يكتب عن هذا المفكر الجريء الذي عاش في القرن السابع عشر، وحيدا في هذا العالم، من دون عائلة ومن دون مجتمع، وألف كتبا غيرت العالم. وأنه طالما سحره موضوع نبذه من الطائفة اليهودية من قبل اليهود أنفسهم وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وتعرضه للرقابة طوال حياته من قبل المسيحيين.

متحف وذاكرة

يعبر يالوم عن اعتقاده أن سبينوزا، شأنه شأن نيتشه وشوبنهاور اللذين كتب عنهما روايتين تستندان إلى حياتهما وفلسفتهما، كتب أشياء كثيرة لها علاقة وثيقة بمجال تخصصه في طب الأمراض النفسية والتحليل النفسي. ويسأل نفسه كيف يمكنه أن يكتب رواية عن رجل عاش تلك الحياة التأملية من دون أحداث خارجية مميزة، وكان شخصا انطوائيا، منكفئا على ذاته إلى حد كبير، وأخفى شخصيته في ثنايا كتاباته، ولأنه لم تتوافر لديه معلومات مفصلة عن تفاصيل حياته، فركز على عالمه الداخلي وأعماق شخصيته.

عالم درامي مبني على حكاية المفكر باروخ سبينوزا
عالم درامي مبني على حكاية المفكر باروخ سبينوزا

يذكر أنه بعد أن زار متحف سبينوزا في هولندا، لفته تاريخه، وكيف نهب النازي روزنبرغ مكتبة سبينوزا، وسبب اهتمامه الغامض به، واستوقفه تحديدا ما جاء في تقرير الضابط النازي الذي أشرف شخصيا على عملية نهب المكتبة، أن المكتبة تضم أعمالا مبكرة ثمينة ذات أهمية كبيرة لاستكشاف مشكلة سبينوزا. ونوه كيف اعتراه الذهول حين قرأ عن استكشاف مشكلة سبينوزا النازية، وأنه دخل إلى متحف سبينوزا بغموض واحد وغادره بغموضين اثنين، وبعد فترة وجيزة بدأ بالكتابة.

ينوه صاحب “علاج شوبنهاور” إلى أنه حاول أن يكتب رواية كان من الممكن أن تحدث، وظل ملتصقا قدر الإمكان بالأحداث التاريخية، واعتمد على خلفيته المهنية كطبيب نفساني ليتخيل العوالم الداخلية لأبطاله، بينتو سبينوزا وألفريد روزنبرغ، واختلق شخصيتين هما فرانكو بنيتيز وفريدريش بفيستر، ليكونا بمثابة مدخل إلى نفسيات أبطاله، ويلفت إلى أن جميع المشاهد التي ظهرا فيها متخيلة.

يمضي في اتجاهين، الأول يستهله بسنة 1656 في أمستردام، يحكي محطات في تاريخ عائلة سبينوزا التي كانت تدير تجارة ناجحة في الاستيراد والتصدير بالجملة، وتدهورت أوضاعها، وكيف ساءت الأحوال بها، بالموازاة مع تصويره لاتجاه مواز متمثل في شخصية روزنبرغ الذي كان فتيا في بداية القرن الماضي، وتحديدا سنة 1911، وكانت حياته ماثلة أمامه، ويصبح صحافيا غزير الإنتاج مناهضا للبلشفية ومعاديا للسامية بقوة.

يصف كيف أن روزنبرغ حين سمع خطابا حماسيا في اجتماع عقده حزب العمال الألماني ألقاه أحد المشاركين في الحرب العالمية الأولى اسمه أدولف هتلر، انضم إلى الحزب، وبعد عشرين سنة وضع قلمه في خدمته، وكتب كتابا بعنوان أسطورة القرن العشرين الذي بيع منه أكثر من مليون نسخة، عرض فيه الكثير من الأسس الأيديولوجية للحزب النازي، وبرر فيه مسألة القضاء على اليهود الأوروبيين.

ثم يستعيد حكايته حين اقتحمت قواته متحفا هولنديا صغيرا في رنسبرخ وصادرت مكتبة سبينوزا الشخصية التي كانت تضم مئة وواحدا وخمسين مجلدا، وأنه بعد ست وثلاثين سنة من تلك الحادثة، بدت عيناه المحاطتان بهالتين داكنتين في حيرة وهز رأسه بالنفي عندما سأله الجلاد الأميركي في نورمبرغ: هل لديك كلمات أخيرة تريد أن تقولها؟

فكر ملوث

يستذكر يالوم من خلال أبطاله كذلك الأوهام والشعارات التي كان يسوقها النازي من أجل الإعلاء من قيمة العرق الآري الذي ينتسب إليه، والحط من قيمة وشأن الأعراق الأخرى، ووصف الآخرين بأنهم طفيليون وضعفاء والأعداء الأبديون، وأنّ العرق الآري محارَب من قبل اليهود الذين يناهضون القيم والثقافة الآرية، ومن قبل غيرهم من الموضوعين في خانة الأعداء.

يكتب عن مزاعم النازيين بأن عرقهم هو الذي خلق الحضارة في جميع الإمبراطوريات العظيمة، لا في اليونان وروما فحسب، وإنما في مصر وبلاد فارس وحتى في الهند كذلك، ولكن جميع الإمبراطوريات انهارت عندما تلوث عرقهم حين أحاطت به أجناس متدنية.

حين يلاحظ مدير المدرسة النزعة العنصرية لدى روزنبرغ يحاول تهدئتها بسبل مختلفة، يكلفه بدراسة سيرة غوته الذاتية، وعليه أن ينسخ كل سطر كتبه عن بطله الشخصي، الرجل الذي عاش منذ فترة طويلة واسمه سبينوزا، وأخبره أن من المهم أن يعرف ما يقوله غوته الذي يعتبره قدوة عن الرجل الذي يحبه ويكن احتراما كبيرا له.

يلفت إلى أن سبينوزا كان يمنح غوته التوازن الذي جعله يوفق بين عاطفته وخياله الجامح بالهدوء والتعقل الضروريين، لذلك يقول غوته عن سبينوزا إنه من أشد عابديه تعبدا.. وتراه يقتبس على لسان روزنبرغ من كتاب غوته قوله “إن العقل الذي كان له تأثير قوي علي وعلى طريقة تفكيري هو سبينوزا. فبعد أن بحثت طويلا، لكن عبثا، في كل مكان عن وسيلة أصقل فيها طبيعتي الغريبة، عثرت أخيرا على كتاب الأخلاق الذي كتبه هذا الرجل. فهو الكتاب الذي هدّأ عواطفي المتأججة، وفتح أمامي مشهدا فسيحا وحرا على الجوهر والعالم الفاني”.

الإعلاء من قيمة العرق

ويحاول إجراء تماه بين ما يعرضه وما يعيشه بطله من صراع، عساه يساعده بحسمه لصالح الجانب الإنساني فيه، وليس الجانب العنصري العدواني، وذلك أيضا من خلال استعادة رأي غوته عن سبينوزا، وقوله إن البعض رأى أنه رجل ملحد يستحق الشجب والإدانة، لكنهم اعترفوا أيضا بعد ذلك بأنه رجل مفكر، هادئ، مواطن صالح محب.

استند يالوم في حكايته على التفاصيل الواسعة عن حياة روزنبرغ الواردة في السجلات التاريخية، عائلته وتعليمه وزيجاته وتطلعاته الفنية، وتجربته في روسيا، ومحاولته التطوع في الجيش الألماني، وهروبه من إستونيا إلى برلين ثم ميونخ، وتدربه وتطوره كمحرر، وعلاقته مع هتلر، ودوره في انقلاب ميونخ، واجتماعه الثلاثي مع هتلر وهيوستن ستيوارت تشامبرلين، والمناصب النازية المختلفة، وكتاباته وجائزته الوطنية وتجربته في محاكمة نورمبرغ.

يعمل صاحب “عندما بكى نيتشه” على تعرية لوثة الفكر، وإدانة العنصرية والتعصب العرقي من خلال دحض الأوهام الفكرية التي مهدت له وروجته كفكر عنصري حاقد على البشرية جمعاء، وعلى كل المختلفين، وكأن العالم يجب أن يخلو من الألوان والأعراق المختلفة ليسود عرق يتوهم التفرد والعظمة والنقاء، وذلك ما يتسبب بمحن كبرى للبشرية، ويؤجج الحروب والكوارث ويساهم في نشر العداء والأحقاد.

عن صحيفة العرب الدولية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم