سبايا سنجار: شعوب الطبيعة في متاهات التجريد
عبد الحميد محمد
أربكت داعش خيارات العالم وأمزجته، وخيارات سليم بركات، ككاتب، عليه مواجهة فاجعة سبيها لسنجار، وتجسيدها كمحنة مؤلمة.
أمام الحيرة والارتباك لجأ بركات، إلى جلب فنان يترجم الفاجعة، ليتقفّى تاريخ العنف والألم في الفنّ التشكيليّ، قارئا عيون السبايا، وعيون مجاهدي السبيّ الداعشي، ليضع ” سارات ” الرسّام في حيرة أكبر، فتنتهي الرواية دون أن ينجز اللوحة الرمز للسبي، كمعنى لا يُقبض عليه، يترجم لواعج القلوب المكلومة.
قاربتُ الرواية بمدخل مختلف في مقالي الموسوم (سليم بركات: المتعة النبيلة في سبايا سنجار)، لكنّ مقاربة أخرى شغلتني، وها أستعرضها الآن، مؤكّدا على أنّ النقد تجريبيّ في أساسه، وبتأكيد من ليفي شتراوس، فإنّ كلّ النوافذ التي يفتحها الكاتب، تُعدُّ صادقة بدرجات متساوية، وإن ذهب بركات إلى القول:
” كلّ شيء متأخّرٌ في إدانة النافذة للمشهد “
نشر بركات قبل الإصدار الرسميّ للرواية، مقاطع مطوّلة منها، في جريدة القدس العربي، مرفقة بلوحة للفنان الياباني هوكوساي (1760 – 1849)، ولا أدري إن كان اختيارها اعتباطياً أم مدروس الأهداف. لوحة هوكوساي تمثّل اندفاعة موجة شاهقة، على وشك أن تُغرق المركب، كأنّما نحن أسرى الطبيعة،
أسرى التسونامي.
هوكوساي وصف نفسه بمجنون الرسم، فأرّخ في لوحاته لجبل (فوجي)، ولوحة (الموجة الكبيرة في كاناغاوا)، المحفوظة في متحف (غيميه) بباريس، تُظهر ولعه المعهود باللون الأزرق: ثلاثة قوارب في خضمّ موجة هائجة، وبحّارة يسعون لتفادي غضبها، فتنكسر لتظهر بمخالب تنقضّ بها عليهم.
للون الأزرق دلالات دينية مقدّسة، ويشير للأبديّ والأزليّ، والتضادّ مع الأرضيّ، ولا سيما لدى الهولندي ” هيرونيموس بوش ” صاحب (جنّة المسرّات الأرضية) التي أخذها بركات ضمن اللوحات العشر، ليطبعها على جسم ” سارات “.
بوش اعتقد أنّ زهور الجنّة وفاكهتها أمدّت الفردوس بفيض الألوان، فرسم لوحته بألوان طبيعية، لكنّ الأزرق لعب في لوحاته دور الفزع والخوف الشديد، ويصف ” سارات ” ذلك، بما يعتبره جذورا لعنف داعش في معتقد بوش وعصره:
” تلقّف قلبي رسالة الهول من لوحة فيها سكاكين على مقاسات واضحة التطابق مع سكاكين دولة الخلافة الإسلامية.. في مقتطف منها على صدري صحنٌ أزرق عليه يدٌ مقطوعة أُغمد فيها سكّين.. الرسّام الهولندي رسم حدود الدولة الإسلامية في العقل السريّ لقرنه “
في الخلفية قمّة جبل فوجي المقدّس مكلّلةٌ بالثلوج، أمّا الشمس فمشرقة ساطعة. ترمز اللوحة لجبروت الطبيعة وصراعها الأزلي مع الإنسان، لكنّها ترمز أيضاً للانفجار المعرفي وسيطرة التكنولوجيا، ولداعش مخالب الكترونية وتكنولوجية، ولخليفتها البغدادي ساعة رولكس تزّين معصمه، وبركات يتحرّك على مسافة من التيه والاغتراب الذي ولّدته قسوة هذا العالم – القرية، إذ تنحسر الحياة فيغدو مستقبل البشرية أقرب للقمامة، تسيّره الأساطير:
” معهد العلم الفيزيائي، المعتمد في عالمنا، خرج إليَّ، في الصباح، أراح تقديري لنشوء الكون، ونظام آلاته الأساطير “
يميل الفن الياباني للبساطة والوضوح، وتمجيد الطبيعة لدرجة التماهي معها، ولا يعرف المجاز أو التجريد كتعقيد غير ذي جدوى. يفضّل الحدّة في طرح موضوعه.
يزيد بركات من حميمية المجرّد فيُغنيه تأمّلا وإحساساً، لينال من أصولية اللغة، بدلالاتٍ روحية، تسعى لتوريث خزائن الممكن كلّها، بجسارة الجوع للا نهانيّ:
” الرسم التجريد معنى تائه يعثر عليه القيافون في الرموز التائهة.. الأمكنةُ تجريدٌ بكلِ حقائقها …كلّها تجريدٌ مؤلمٌ في حنوّ ألوانِهِ أو قسوتها…فيها معضلةَ وجود”
في نشأة العمل الفنيّ، يحرص الشاعر الروائيّ على الإتيان بكلّ ما لديه، ليمنح عمله سيفاً لامعاً، في معركة العقول، قال به فالتر بنيامين Walter Benjamin.
الوهم العذب في الأسطورة، كخرافةٌ أشبه بالحقيقة في تسييرها للإدراك البشريّ، لهفة اضطرارية وانتماءَ للأحياء، وللموتى:
” منذ أُنشئ وهو مُنشغل بإضافة زيادات دقيقة التفاصيل إلى أساطيره. أنا والكون وضعنا بَيضَ يقيننا تحت الرُّخِّ ذاته -رُّخِّ المُعظلة الحنون.”
التشاكل الكامن في الأساطير، وفي الميثولوجيا الإسلامية والإيزيدية، يُحضره بركات ليفسّر، بل ليُشكل علينا أكثر. الرخّ أحد المستحيلات الأربع، فتتعارك الملائكة، ولا يقين تُشرق شمسُه، لا أمل في أن يتخفّف الواقع من فظاظة لغته، فالأمل إشكالٌ لليأس، ولا منفذ للحياة في النجاة من يقين انهيارها، ولا حلول للمعضلة، آن يتّسع الموت، وآن تُستولد الغرائز من أهواء التناحر الدمويّ في سماء الجغرافيا، وآن تُستوفى الحروبُ من خللٍ في بناء دول الصدفة، إذ تشرّع للقهر والخراب والنهب.
كلّ شيء متشابكٌ، متداخلٌ. والتشابك لغويّا يفيد في معنى التشابه في الشكل، بينما رياضياً يعني علاقة بين عنصر وآخر في مصفوفة رياضية، ولكنه مفهوم مهمّ في علم النفس والفيزيولوجيا، يفيد في دراسة العمليات النفسية الشعورية ودراسة الألوان. في التشاكل علاقة بين العقل المتحضّر والعقل البربريّ والعقل البدائيّ، وفي التشاكل صورةٌ مثلى لدينامية الحزن، واستحضار للعقل الانسانيّ وكيفية عمله، وتحليلٌ لمفرزات السلوك السيكولوجيّ الانسانيّ وطباع البشر وأحوالها وطباع الأمكنة وأحوالها. في التشاكل إيماءةٌ لنمطية العقل البشري، وجذور العنف الدينيّ وبنيته، ومنطقه الداخليّ القائم على الغريزة حين يتحوّل لمسلك جمعيٍّ متشابه لدى الجماعات، كحال المؤمنين الموعودين بحوريات الخليفة البغداديّ.
يُقارب سليم بركات ” سلفادور دالي “، في انفعاله ونقده الهذيانيّ، في السير نحو الحقيقة، وتهذيب الغرائز، رافضاً أن يستسلم للغيبيّ في الدين، فيوسّع المشهد أكثر مما تحفل به شوارعنا، إذ يستعرض جنانه كوعودٍ مؤجّلة ساحرة.
في مقدمة الأسطورة والمعنى لكلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss، ورد:
“… من الملامح المميزة للتصوير الياباني قوة ضربات الفرشاة، فعند تمثيل أيّ موضوع يوحي بالقوة مثل منقار الصقر أو مخالب النمر أو جذع الشجرة فإنه في هذه اللحظة التي تستخدم فيها الفرشاة يجب أن يُستثار الإحساس بالقوة ويتمّ الشعور به لدى الفنان ومن ثم ينتقل إلى الموضوع الذي يقوم بتصويره …”
وفرشاة بركات، بوصفٍ منه، ضربةُ فوضىً على حِذْقٍ كبير من المران على المعاني التائهة، تسعى لترسم بضربةٍ لا منتظمة الشكلِ في التشكيل.
الفنّان يعمل بفعلٍ تراكميّ تجريبيّ، بتوصيفٍ من جون ديوي، أمّا اندفاعة ” سارات ” الأولى إلى بياض اللوحة:
” ألهمني الاختلاء بفكرة عن صدام اللون في بياض القماش الذي لم أجرحه مذ طليته بياضاَ. وضعتُ أوّل ثقبين رماديين في الكون العاصف فسرّعتُ زمن فراغه البياض، ثم أبطأته.. لم أتقدّم أكثر من ذلك في مجهول لوحتي عن (سبايا سنجار). ما كنتُ لأقبل بأقلّ من ذلك في اندفاعتي الأولى، بعد ظهر يومي العائم على مياه الفيزياء الكونية “
يقتفي طباع الأمكنة والبشر، ونشأة الأشياء، واشتقاقات الأصول بمحراث الجسارة، في سِعة يعاند فيها الوتر كي لا يرتخي، في علاقة تشاكل، ليتداخل الإنسيّ بالوحشي، البربريّ بالمتحضّر، المحسوس بالمجرّد، العصريّ بالبدائيّ، الخيال بالحقيقي، المجاز بالممكن، الكتمان بالبوح، الاسطوريّ بالعلم، واللغة في حركة دؤوبة مستمرّة، لأنّها خلفية كلّ شيء في تقصّي المعنى، ورؤية الأشياء.
التشاكل يختلف عن الرمزية، فلا ينتقل من المحسوس إلى المجرّد، لا يتقدّم من الأقلّ معرفة إلى الأحسن معرفة، بل يبقى عند ذات المستوى من التجريد.
بركات المولع شغفاَ بتاريخ الصيرورات، ومنابت المعنى، يبحث عبثاً عن عطالة، كنيتشه، لتُورّث الكلمات حظوظها للنهاية، كمنهج اختطّه لنفسه على العموم، حين ينفد كلّ غرض لها، مع إيصالها للا عودة، لكنّه في سبايا سنجار يتخفّف من التجريد، لنتعرّف على حزنه عن قرب.
يُمعن في الحديث عن الجلّادين، وعن الدولة الإسلامية، في الشام وفي العراق، محاولاً أن يفتح لنا ثغرة إلى قلوبهم، وجوارحهم وما كلّل أفئدتهم ونفوسهم.
يبحث عن المُعْتَمَل في قلوبهم، بذات العاطفة الرؤومة بفتيات سنجار، كأنما لا يودّ أن يجرح نفسه، ولطالما قال الشعراء:
” إذا رمينا عصفوراً فسنجرح أنفسنا “.
الاسم الصريح، للدولة الإسلامية في العراق والشام، أنثروبولوجيا اسميّة وامتداد ميثولوجي نحو الأسطورة، نحو الخرافة، من صانع وجود، وعاملٍ من عمّال اللغة احترف هندسة المخاطبات الشفهية.
الزمن الجذري الاستعاري يصفه كلود ليفي شتراوس باللا زمن، إذ يمتاز بخلفية لغويّة حركية دائمة، ليبرز معه تفكيرٌ استعاريٌّ أيضاَ، يميّز شعوباً يصفها أرنست كاسيرر بشعوب الطبيعة، تفكير يناقض التفكير الاستدلالي المنطقي.
سنجار رعبها حقيقيّ، فتأهّبت الحواسّ كلّها، إذ أمسى العصيّ على التخيّل واقعاً عنيفاً، والعنف في اللوحات التي استعرضها سارات، حقيقة تجاوزت الخيال، وجسده، الجسد الرواية غدا لوحة في استعراض العنف والرعب، يوم اجتاح تسونامي داعش سنجار والرقّة وغيرها من المناطق، ليعود الفكر البشريّ القهقرة إلى كهف أفلاطون ، في فهم صيرورة الفكر البشري الذي يستعرض بركات مراتبه مع سارات ، إذ انكشف العالم على بربرية لا تُطاق، و الخراب في أيّ مكان يشبه الخراب في أيّ مكان ، فللموت أحذيته ، كما للحياة أحذيتها ، و لا بدّ من العثور على تبرير للحزن حين يفشل الموت في إقناعك، بعلمٍ من اللوعة في مراتب الفقد، و التخطيطات الحزينة للحياة .
في سبايا سنجار، قبحٌ استجمعه بركات من لوحات أساطين الفنّ الكبرى، عصيٌّ على الفهم البشريّ المحدود، لكنّ في استطيقا القبح نقدٌ للهيمنة، يقول أدورنو.
نقلاً عن رامينا نيوز
0 تعليقات