هيثم حسين

ترصد الروائية الأميركية الجزائرية كلير مسعود في روايتها “الفتاة التي تحترق” اختلاف آليات التواصل والتعاطي بين صديقتين؛ جوليا وكايسي اليتيمة، وكيف ابتعدت إحداهما عن الأخرى بعد أن دخلتا سن المراهقة، وبدأت أسرار الماضي بتشكيل حواجز بينهما بطريقة غريبة، كما تتابع رحلة البحث عن الأب المليئة بالتشويق والتي تنتهي نهاية مؤلمة.

تظهر كلير مسعود في روايتها (الرواية من منشورات روايات، الشارقة، ترجمة خالد الجبيلي 2020) كيف أن راويتها وبطلتها جوليا تتألم لمضي الأيام بصورة رتيبة مملة، وتتذكر مقولة صديقتها التي كانت تخبرها بأن الأمر كله هو أن الزمن يمضي بطريقته ويمضي بالناس في مساره، وتقول إن القصة التي تكون بصددها مختلفة وتعتمد حكايتها على النقطة التي ستنطلق منها.

حواجز غير مرئية

رحلة بحث مشوقة
رحلة بحث مشوّقة

 تشير الروائية إلى أن كل امرئ يشكل قصصه الخاصة به لتعبر عن الطريقة التي يفكر بها لنفسه، وأن بطلتها يمكن أن تبدأ القصة منذ أن كانت هي وكايسي أعز صديقتين، أو يمكنها أن تبدأ منذ انقطاع علاقة الصداقة بينهما، أو بوسعها أن تبدأ من النهاية الكئيبة وتحكي القصة كلها من الماضي.

التقت الصديقتان في روضة الأطفال، ولا تستطيع جوليا أن تتذكر زمنا لا تعرف كايسي فيه، لأنه مرتبط بكل تفاصيل ماضيها، وكانت تعرف موقعها في الروضة وأين تجلس بين الأطفال، وكانت دائما أصغر فتاة حجما في الصف، وكانت بالرغم من ضآلة حجمها تبدو قوية، وكان يمكن لها تبين قوتها من عينيها حين كانت تنظر إليها.

تذكر جوليا أن أمها لم تكن مثل بيف أم كايسي على الإطلاق، كما لم يكن بيتها مثل بيت صديقتها، فهي لديها أب بينما صديقتها يتيمة، وكانتا دائما مختلفتين، ولفترة طويلة كانت كايسي تحب أن تزور صديقتها في بيتها لأنها تستطيع أن تتظاهر بأنهما شقيقتان سريتان، وأن أسرة صديقتها هي أسرتها أيضا.

والد جوليا يعمل طبيب أسنان، وأمها صحافية مستقلة، وكاتبة ومدونة، ما كان يضع حاجزا غير مرئي قد تقادم مع الزمن بين الصديقتين، حيث إن كايسي بدأت تتفهم وضعها كيتيمة فقيرة، وباتت تنأى بنفسها، لأنها تعيش الحرج، وتحترق في داخلها، من شدة الأسى والمرارة على واقعها، وحالها، وتبقى مسكونة بمشاعر متناقضة من الأذى والمعاناة. تحكي جوليا أنه لو كان بمقدورها أن تعود بالزمن إلى الوراء لدونته كله، الأسرار التي كانت تفضي بها إحداهما إلى الأخرى، والخطط التي كانتا تضعانها، والأغاني التي كانتا تستمعان إليها، وكل التفاصيل الصغيرة التي كانت تجمعهما، وتلون أيامها بجمال طفولي وسعادة وبراءة كانتا تظنان أنها أمور وتفاصيل ستبقى ملازمة لهما دائما.

تستذكر مغامراتهما الطفولية، وعملهما المؤقت في ملجأ للكلاب، وكيف تعلقت كل واحدة منهما بكلب هناك وكانت تشعر بأنه كلبها، وكانت كايسي شديدة التعلق بكلبة أسمتها شيبا، وكانت تنسل إلى قفصها وتلاعبها، وتسعد بإسعادها واللعب معها، إلى أن حدثت مفاجأة لم تكن متوقعة، حين جاء الكلب ليو على حين غرة ودخل القفص، وعض يد كايسي في محاولة منه للحصول على قطعة جلدية كانت تحملها وتتسلى بها مع شيبا، ما شكل منعطفا في ذاك العمل بالنسبة إليهما، لكنه كان من الذكريات التي تملأ عالم جوليا بالجماليات والسعادة التي تفتقدها مع صديقتها.

تصور كلير مسعود حالة الطفلة اليتيمة على لسان راويتها، وكيف أن والدها الغائب كان يشكل بالنسبة إليها طيفا جميلا، لا لأنه قد لا يكون حقيقيا، وإنما لأنها لم تعرفه في الواقع قط، أو لم يكن بوسعها أن تتذكر شيئا عنه، سوى وجهه، تقول إنها تتذكره وهو ينحني فوق سريرها، عيناه زرقاوان، وشعورها بالأمان حين يحملها بين ذراعيه، ذكريات صغيرة جدا، مظلمة حول الحافات مثل صورة قديمة، لكنها لا يمكن أن تمحى.

صدمة الاكتشاف

تصور كلير مسعود كيف أن رحلة البحث عن الأب الغائب، ورحلة التعرف عليه قد تصبح كارثية
تصور كلير مسعود كيف أن رحلة البحث عن الأب الغائب، ورحلة التعرف عليه قد تصبح كارثية

 تستعيد الراوية الأحداث بأدق الدقائق، وتحار إن كانت تستعيد ما تتخيل أم حصل حقيقة، ولأسباب مختلفة بدأت أيامهما في البلدة الصغيرة، وحلمهما المشترك هناك، بالتلاشي وكأنها لم تحدث، وعندما افترقتا لم يكن هناك أحد ليذكرهما بأن ما حدث قد حدث في الواقع. ثم تتفهم ما تخبرها أمها بأن كل الناس في مرحلة من المراحل يفقدون أعز صديق، ولأسباب قد تكون مجهولة أحيانا، ويحل الفراق بعد الالتئام بشكل من الأشكال.

تصف دخولها مرحلة المراهقة وتوديع الطفولة وكيف كانت تأثيراتها عليها، وكيف اختلفت التأثيرات من فتاة إلى أخرى، وكانت هناك الصراعات الاجتماعية والآلام وإحراجات سن المراهقة، وكان ثقل العالم الذي يهبط على كل فتاة من صديقاتها بدرجات متفاوتة، وهن يودعن أخيرا سحب مجد الطفولة لكي يعشن بعد ذلك في عالمهن الدنيوي.

وتلفت إلى أنه يصعب إدراك جميع الأشياء المختلفة التي تجري في وقت واحد، أو الأشياء التي حدثت في وقت واحد. وتنوه إلى أنها في بعض الأحيان ينتابها شعور بأنها عندما تكبر وتصبح فتاة فإن ذلك يعني أن تتعلم كيف تصبح خائفة، لا أن تصاب بالذعر تماما، وإنما أن تكون حذرة ويقظة على الدوام، كما تفعل عندما تحدد أماكن منافذ النجاة في دار السينما أو موقع سلم النجاة في الفندق، وتبدأ بمعرفة ما كانت تجهله وهي طفلة، وبأن الجسد الذي يسكنها ضعيف، غير محصن بالكامل.

وتنوه إلى أن العالم يبدأ بمحاصرة الفتاة التي تكبر رويدا رويدا وبطريقة غير مباشرة، حيث تبدأ تكبر وتتعلم من جميع القصص التي تسمعها أو تجري من حولها، كيف يبدو العالم، وتبدأ بفقدان بعض الحريات، لا لأن أحدا يقول لها بأن عليها تقييدها، وإنما لأنها تعرف بأن عليها أن تتوخى الحذر، ولم تعد هنالك صديقة تساندها في حلها وترحالها. وتشير إلى أنه بينما ينفتح العالم أمام الفتاة التي تدخل سن المراهقة فإنه ينغلق أيضا، وتكشف الأشياء عن أشكالها التي لم يكن من الممكن تخيلها في السابق، ومن دون قول ذلك، فقد قوبلت جوليا كطفلة لها مستقبل مشرق، في حين أن درب كايسي سيكون مختلفا عن دربها، وذلك من دون أن يصرح أحد عن ذلك بأي شكل.

تحكي أن المنعطف الذي يغير حياة كايسي يبدأ ببحثها عن والدها المفترض، واكتشافها أنه يعيش في مدينة أخرى، وأن أمها لم تخبرها بالتفاصيل وكذبت عليها، ما يشكل حافزا لها للبحث والاكتشاف، وبعد جهد مضن تصل إلى بيت آرثر كلارك بورنيس الذي يفترض أنه والدها، وحين تواجهه وتخبره أنها ابنة بيف، يتنكر لها ولأمها ويغلق الباب في وجهها. وتكون تلك اللحظة صادمة ومؤذية جدّا للفتاة المراهقة.

تذكر بحرقة أن كايسي أعادت والدها إلى الحياة، ثم بدأ الرجل الذي ذهبت لتستعيده، والذي لطالما آمنت به ومنحته كل حبها قبل أن تقف على عتبة باب بيته بزمن طويل، رفضها، ولم يعد الرجل المتخيل متخيلا، بل أصبح حقيقيا، يرفضها وينكرها بالكامل، ثم لم يعد أحد يريدها، بل لم يعد هناك أحد يريد أن تعيش معه، ولم يعد لديها مكان يمكن أن تلجأ إليه.

تصور كلير مسعود كيف أن رحلة البحث عن الأب الغائب، ورحلة البحث عن التعرف عليه، قد تصبح كارثية، مثلما حصل مع بطلتها كايسي التي تهشمت في داخلها، واختفت بعد ذلك، وحيكت عنها قصص غريبة متضاربة، ثم وجدت في مكان مهجور، وعولجت، لكنها لم تعد أبدا تلك الفتاة التي كانت في الماضي، ورفضت التكيف مع واقعها، وأصبحت شخصية مختلفة عن شخصيتها السابقة، وانكسر إلى الأبد ما كان يجمع الصديقتين من حب وذكريات ووفاء وسعادة وجمال.

العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم