مروان عبد الرزاق

-1-
«النبيذة» وهي رواية للروائية العراقية إنعام كجه جي، المقيمة في باريس منذ عقود، تمارس الصحافة، وانتقلت إلى الرواية في عام 2005، وأصدرت روايتها الأولى «سواقي القلوب» و«الحفيدة الأمريكية». وهذه هي الرواية الرابعة بعد «طِشاري» التي دخلت القائمة القصيرة لروايات البوكر في 2019.
والنبيذة عنوان مغرٍ للقارئ، حيث يوحي بالمرأة النبيذة، أي المخمورة بالنبيذ والتي تصرخ نحو الحرية، وحقوق الإنسان، وحق المرأة في العمل، والثقافة، والحب، والجنس، لأن المرأة هي روح المجتمع وذاكرته؛ وبالتركيز على هذه القضايا نصيب كبد الحقيقة، وحريتها تعني أن المجتمع أصبح حراً بالكامل، في وجه السلطة الطاغية في العراق وغيرها، بعد أن جفّت أوراق الصحف، وسكت المحللون السياسيون! لكن المنبوذة في الرواية ليست وفق تعريفنا الشعبي بأن النبيذ هو الخمر، إنما هي المرأة المطروحة، أو المنفية من وطنها، وهي السكرى بحبه حتى الثمالة، كما النبيذ عندما نرتشف منه القليل، نكتشف كم هي الغربة قاسية كالصوان، ويبقى الوطن في القلب، مهما جار الزمان.
وهذا هو حال الأبطال الثلاثة في الرواية، «تاج الملوك عبد المجيد» وهي إيرانية من أم عراقية، أرستقراطية المنشأ، وهي في الثمانين من عمرها، حيث توهم الروائية القارئ بأنها في القطار، و«ماضيها رمى نفسه في المقعد المقابل، وكانت عيناه تقبضان عليها وتقيدان يديها» وحياتها أشبه بحياة القطار ومواقفه المتعبة، وهذه من نهاية الرواية، إلا أنها في مشفى باريسي «فال دو فراس» وموجود في المشفى «أحمد بن بلا» الرئيس الجزائري للعلاج، حيث كانت جاسوسة فرنسية تسعى لاغتياله، قبل نصف قرن، لكن الرأفة الإنسانية منعتها من ذلك. وتسرد مع «وديان» تاريخها المليء بالقصص، والأسماء، والمغامرات، والأقدار التي عاشتها.
واكتسبت عدة أسماء، فهي تاجي، وتيجان، ومليكة، ومارتين، «رقصت بها ثم خلعتها» فقد توفي والدها وهي طفلة، وتزوجت والدتها من عراقي، حاول أن يعتدي عليها، والذي كان «خائفاً ومرتبكاً أمامها، وحين تخلع نعليها يقبل قدمها الصغيرة» لكنها كسرته مثل الكثير من الرجال، سوى أكرم الذي لم يلجأ إلى إغوائها، والذي رسمها وهي عارية، «وأفعى مرقطة تستر أسفل بطنها» وكانت قنبلة جنسية، وتقدم نفسها «رمانة شهية بقشرة سميكة» وهي آكلة الرجال، مثل أبيها زير النساء، وتتذكر فراشها للغواية والجنس والضجر والنعاس. وتعلمت الصحافة ودخلت الأجواء الراقية، والقصر الملكي لعبد الإله، ونوري السعيد حكام العراق في أربعينيات القرن الماضي، لأنها متحررة، وجميلة، وجريئة، وحازت كأول امرأة تترأس مجلة «الرحاب» وتصدرت الصحافة في مجتمع ذكوري، وكانت تعبر عن رأي الحكومة والملكية، وتعلمت العديد من اللغات، وقابلت تشافيز عدو الإمبريالية، وبورقيبة، وغيره من الرؤساء. إلى أن جاءت المظاهرات الشعبية ضد معاهدة «بورتسموث» فاشتركت مع الجماهير الغاضبة، وألغيت المعاهدة مع البريطانيين، ثم حلف بغداد، والشباب ومنهم الشيوعيون، الذين كانوا يكتبون إلى أحزابهم من السجون بماء البصل. وغضبت الملكية عليها، وسافرت إلى كراتشي لتعمل في الإذاعة العربية، وأذاعت خبر إعدام الشيوعيين العراقيين. وهناك تعرفت إلى حبيب العمر، وهو «منصور البادي» لكن لم يلتقيا، وتم تهجيرهما، حيث انتقلت إلى العراق، وحملت من حب إيراني عابر بطفلة، ثم ذهبت إلى باريس وتزوجت من الكولونيل «سيريل شاميون» الذي كان يكره العرب والجزائريين المناضلين في سبيل الحرية، وعملت معه كجاسوسة لاغتيال السياسيين والمثقفين العرب، ومنهم «أحمد بن بلا» لكنها بدافع الرأفة الإنسانية،» وتزاحم الأفكار، وذكرياتها عن شهداء الوثبة وجنازاتهم، وغضبها على الإنكليز، وعطشها للحرية» لم تعط الإشارة بالاغتيال. وتعود إلى باريس محطة العمر الأخيرة، وهي أرملة شاميون ترقد في المشفى، محنية الظهر، وبيدها راديو تستمع إلى ثورة الياسمين في تونس. وتنتظر حبيبها منصور، بلا وعيها بسبب لعنة الشيخوخة والزهايمر، مرض الموت، الذي جاء إلى باريس ورآها عجوزا محنية الظهر، فتركها وعاد إلى كراكاس، وخذلها في عجزها، وأيضاً في شبابها.
و»وديان» المرأة الشابة الأربعينية، التي تعرفت إليها في أحد مسارح الغناء، وهي عازفة الكمنجة في الأوركسترا السيمفونية العراقية، وأصبحتا صديقتين، وقدمت لها كل أوراق حياتها التي كانت تخبئها تحت سريرها. وعاشت في زمن صدام حسين، حيث تركها خطيبها «يوسف» بعد أن اعتدى عليها «ابن الشيخ» التي رفضت نزواته، يعني ابن «صدام» وفض عذريتها، وحين وضع مكبرات الصوت في أذنيها، وصب الكحول فيهما، وجعلها صماء، وحين تتذكر «تتدفق دموعي نبعاً في صخر تصعد حراقة من أعماق سحيقة في روحي». ويوسف وهو من أصحاب العائلة، لم ينل سوى البكاء والنحيب، الذي تركها تنقاد كالنعجة إلى المسلخ والاغتصاب الوحشي. كنت أريد أن يقتلني، لكنه كان يضحك عندما اغتصبني، وجعلني صماء ميتة أمشي على قدمين. وهاجرت إلى فرنسا لعلاج الطرش. وكانت ترفض أي علاقة للحب بعد فشل حبها الأول، فكانت «تكش الذباب عن الدنيا، عن «صينية البقلاوة بالدهن الأحمر التي كانت تاجي تقبل عليها بشهية، كأنهما ضرتان لشبح واحد، جمعهما مصير أخرق، نبتتان من تربتين مختلفتين وطقسين متعاكسين». وعراقها ليس عراق تاج. إن لها شخصية أخرى، وفي النهاية نجدها منخرطة في حلقات دينية، وتبحث عن فتوى دينية عندهم لسماعها الموسيقى.

ترغب الروائية في البحث عن الهوية، هوية الأبطال الثلاثة، بين الوطن «الأم» والمنفى وهو أرض الحداثة والديمقراطية في باريس، وفنزويلا، في صيغة سرد روائي ما بعد حداثي، حيث النبذ أو التهجير واحد من موضوعاته، ويمكن للبشر أن يعيشوا بهويات متعددة، ثقافية أو دينية، أو اجتماعية.

و»منصور عبد البادي» المهجر من القدس بعد حرب 1948، وخسارة العرب والفلسطينيين، والذي عرفته تاجي في كراتشي كمترجم، وعشقته بدون أن يتواصلا جسدياً. لكنها ظلت «نبيذها حلو، وهيمنتها على مذكراتي تضنيني». ومع تهجيرهما، رحل منصور إلى بيروت، وفنزويلا، حيث أصبح مقرباً من تشافيز عدو الإمبريالية. والتقطت وديان عنوانه بعد نصف قرن، ودعته لرؤية تاجي، التي تبقى بدون عنوان بلقائه أم لا.
-2-
ترغب الروائية في البحث عن الهوية، هوية الأبطال الثلاثة، بين الوطن «الأم» والمنفى وهو أرض الحداثة والديمقراطية في باريس، وفنزويلا، في صيغة سرد روائي ما بعد حداثي، حيث النبذ أو التهجير واحد من موضوعاته، ويمكن للبشر أن يعيشوا بهويات متعددة، ثقافية أو دينية، أو اجتماعية. لكن يبقى الوطن الأم والحنين إليه هو الأصل. وعندما تخرف الذاكرة ولن تجد سوى بعض الومضات، ووديان عندما «ثقبت طبلتها فقدت تاريخها» بحيث تصبح النوستولوجيا جميلة بهذا النقصان، و «كم يخسر الجمال لو اكتمل» بالنخلة التي يفتقدها، وهذا رمز للعراق والحنين إليه. إنها الذاكرة الجماعية لبشر هربوا من الظلم والطغيان، إلى أرض الحرية؛ عاشوا في ربوعها وخرفوا وماتوا في أراضيها.
والنقص الآخر هو عدم اشتغال الرواية على مرحلة ما بعد سقوط صدام وطغيانه، والتأسيس لحكم طائفي بديل، بمعونة الأمريكان، وتدمير للدولة القديمة، وصراعات الحرب الأهلية، و«داعش» والحرب المدمرة. وهذا النقص علينا نحن القرّاء أن نكمله، حتى نستطيع إكمال الجمال الذي انتهت به الرواية. وبذلك تصبح العلاقة مع الرواية ديناميكية، وجذابة، بحيث يكون للقارئ دور في إغناء الرواية. ثم لماذا المرأة هي البطلة، وهي سيدة الموقف وصورتها على الغلاف، وهي صورة لتاجي- كما يدعي أحد النقاد-التقطها مصور في شارع الرشيد؟ واختيار السيدة تاجي كامرأة مركبة، متعددة الصفات والأحوال. والروائية تختارها لأنها تملك تجربة أكبر في الحياة. لكنها متناقضة في مواقفها، أم هو السرد الطبيعي لتحولات المرأة تجاه الأحداث السياسية الجارية، إذ كيف هي الملكية والمقربة من الملك، وجاسوسة تكتب التقارير في أصدقائها، وتصعد في مظاهرة تهتف ضد الملك، وتخسر كل ما جنته، وكيف تتزوج من رجل المخابرات الفرنسي وتعمل جاسوسة لقتل السياسيين المناضلين في سبيل الحرية، ولا يعفيها أنها قدمت الحياة لابن بلا، قد يكون قتلت غيره الكثير من الشهداء. وهي ليست امرأة عامية كي يتلون موقفها حسب الظروف. ويترافق مع عنفوانها منصور الفلسطيني الذي هاجر وظل يدافع عن فلسطين ضد الصهيونية، وحالة الحب بينهما هي علاقة سياسية بين العراق وفلسطين، وهو «يبحث عن حبيبة تائهة مثله بين الخرائط» وليست جاسوسة للاستعمار الفرنسي. و«وديان» ذات البعد الواحد، التي ترفض الحب وتتمناه، فهي «تشتهي وتستحي» «وتجوع للاندساس بين ضلوع رجل، وتحلم بالرعشة الأزلية» لكن خسارة فهي لا تفعل شيئاً، سوى أن تكش الذباب عن المائدة الحرة. وهناك بعض النقاد وصف الرواية بأنها بوليفونية، متعددة الأصوات، لكنها بالحقيقة غير ذلك، فصوت الروائية، ولغتها، وسرديتها، واضحة في كل الفصول، ذات السرد الموضوعي، والذاتي المتبع في السرد المتقطع المخالف لتسلسل الأحداث في الرواية.
إن لغة الرواية سهلة وبسيطة، ومليئة بالصور الشاعرية المصاغة بقالب أدبي جميل، لوصف عمق الأشخاص، والأماكن المتعددة في الرواية، رغم استخدامها للأغاني العراقية، واللهجة المحكية. إنها تكتب لجيل جديد من العراقيين، قبل أن تنمحي الذاكرة بفعل الزمن، حيث أصبحنا مشردين بفعل النظام الاستبدادي الطاغي على الشعب، الذي يطرد أبناءه. إنها كما تقول ترسم الظلال التي ألقتها الأحداث السياسية على مصير الأفراد، رجالاً ونساء. والعودة لبعض التاريخ، هي إجابة على السؤال: أين كنا وأين أصبحنا؟ إنه مصير الغربة القاسية للرجال والنساء، وتبقى الرواية مفتوحة للعاشقين الجدد الذين سيغيرون الأنظمة على الطريقة التونسية، بحثاً عن الحرية والكرامة الإنسانية.

القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم