موسى إبراهيم أبو رياش

على الرغم من أن رواية «قيامة البتول الأخيرة (الأناشيد السرية)» للروائي السوري زياد كمال حمامي، تتناول الاحتراب الداخلي في سوريا، إلا أنني أراه مجرد غطاء لما هو أهم وأعمق وأخطر وأبعد أثرًا، وما الاقتتال الداخلي إلا المظهر الخارجي أو الإفراز العفن، لما هو أعفن وأشد قتامة، الاقتتال الداخلي هو تحصيل حاصل لما يدبر في الخفاء، ولما تراكم من فساد وأخطاء، وما تكدس من تقصير وتجاهل وإغماض العين لما يجري هنا وهناك.
صحيح أن الحرب قذرة، مهما كانت أسبابها ومبرراتها، ولكن لا بد منها أحيانًا للتخلص من قذارات أكبر، أو لقطع الطريق على نجاسات وأوساخ تطل برأسها. والأخطر أن تكون الحرب نتيجة حتمية لما سبق ومهد لها، أي أنها مرحلة لا بد من المرور بها للوصول إلى ما بعدها، فعندما تشتعل النيران حول حزمة من الديناميت، وسط أناس نيام أو سكارى، فأي قوة أو حيلة تستطيع وقف انفجارها أو حتى تخفيفه؟
تتخذ رواية «قيامة البتول الأخيرة» دار نون 4، حلب، 2018، 313 صفحة، من مدينة حلب السورية فضاءً لها، خاصة حارة «البندرة» التي كانت حيًا لليهود، ولكن حارة «البندرة» ما هي إلا نموذج يمكن تعميمه على كل مدينة سورية أو عربية، فما حدث في حلب، قد يقع في غيرها شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا إذا توافرت الظروف وأزفت ساعة الانفجار.
لن تتطرق هذه المقالة للصراع بين قوى المعارضة والنظام، فهو مجرد غطاء لما خفي، وما خفي أعظم، فثمة قضايا وموضوعات مرتبطة بهذا الصراع، تمهد له أو نتيجة له أو تزيد ضرامه، فالصراع يمزق الأقنعة، ويظهر ما خفي، ويعلن السرائر، ويكشف معادن الناس وحقيقتهم.
إن الفساد عندما يستشري في أي بلد، وتكون له اليد الطولى والسلطة للثواب والعقاب، ورفع أتباعه، وإقصاء من يعترض عليه أو يقف في طريقه، فهذا إيذان بأن الأمور وصلت إلى نهايتها، وأن العاصفة لا بد أن تزأر، والبركان أن ينفجر؛ فالفساد يعني بالضرورة ظلما يعم جميع المخلصين والشرفاء، وتوحشا على مقدرات البلد وسرقته تحت مظلة القانون بالغش والتزوير، وتراجعا شاملا في جميع المجالات، خاصة الخدمية منها التي تمس حياة الناس اليومية، ونشوء طبقة أخطبوطية متسلطة تعبد المال، فهو ربها، وكل شيء في سبيل الوصول إليه مباح. والاقتتال الداخلي أحد أوجه هذا الانفجار الذي يأتي كنتيجة حتمية للفساد وتوابعه وإفرازاته، يأتي بحجة التخلص من الفساد والظلم، ولكنه ـ في الغالب- يؤدي إلى ما هو أسوأ وأخطر.
تحدثت الرواية عن كوارث الاقتتال الداخلي من قتل للمدنيين بدون تمييز، أو تهجيرهم، والتدمير الذي طال كل شيء في أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، التي تعتبر مدينة فوق مدينة فوق مدينة لما تعاقب عليها من عصور وأزمان وأقوام، وكل بيوتها القديمة آثار تُزار، وحتى أسواقها وحاراتها وأزقتها وشوارعها وقلعتها ومساجدها وفنادقها، فكلها قبلة السائحين من كل أصقاع الدنيا. إن محو مدينة كهذه يعني محو التاريخ، ومحو الحضارة، ومحو الجذور ومحو كل ما يمكن أن يكون مصدر فخر واعتزاز.

على الرغم من المآسي والدمار ومشاهد القتل والأشلاء التي صورتها الرواية، إلا أنها تتميز بالجمال لغة وسردًا وتغلغلًا في أعماق شخوص الرواية وكشف دواخلهم وعذاباتهم، وخبث بعضهم وعفن بواطنهم، من خلال راوٍ عليم مطلع على كل صغيرة وكبيرة.

وقد أشارت الرواية إلى بعض مظاهر الفساد المتدرج من القاع إلى الهرم، وكيف يتسيد الفاشلون على أصحاب الكفاءة والتفوق بسبب صلتهم بأرباب الفساد، ومشاركتهم في خطوط إنتاج الفساد. وأدانت الرواية السكوت عن الفساد والمفسدين، ورمزت بذلك بـ«أم القطاط» التي حشدت في بيتها عددًا كبيرًا من القطط، تجمع لها طعامها من حاويات وأكياس النفايات، وأهملت نظافة بيتها، فانتشرت الروائح الكريهة في الحارة، لكن جيرانها اكتفوا بالاعتراض والقلق والتنديد، بدون القيام بفعل محدد، بحجة عدم التدخل في شؤون الآخرين. ولما زكمت الرائحة الأنوف، وأصبحت لا تطاق، عابرة للأزقة، ويستحيل العيش معها، تجمع أهل الحارة واضطروا لكسر باب البيت، فوجدوا معظم القطط ميتة ومتفسخة، وكذلك «أم القطاط» تفسخ لحمها وبانت عظامها، وأحد القطط يلتهم ما بقي من لحمها.
بعض أهل الحارة ممن تجرأوا على رفع الصوت على المفسدين، كان مصيرهم الفصل من العمل ثم القتل، وتوجت جرائمهم باغتصاب جماعي «للبتول» أجمل فتيات الحارة وأرقهن وأطهرهن، فألقت بنفسها من سطح بيتها، ولم يعثر عليها أو على جثتها، فأصبحت لغزًا يشغل بال أهل الحارة، وتراءت كطيف لبعضهم، خاصة عبدالسلام ويحيى، تظهر للعتاب أو الاحتفاء والفرح.
تكشف الحروب قذارة البعض وتعريهم، لأن ما يحدث لا يحتمل التمثيل والادعاء والتخفي خلف الأقنعة، وذكرت الرواية عدة نماذج منها، «أبو جمرة» صاحب السوابق الجرمية، الذي استغل نزوح الناس فاشترى بيوتهم وعقاراتهم بثمن بخس، ولم يتورع عن سرقة آثار البلد خدمة للأعداء، مقابل المال، وكان عقابه سريعًا؛ إذ سرقته زوجته وهربت مع عشيقها. والنموذج الثاني هو «الجقجوق» الذي يسلب الموتى ما في جيوبهم وأيديهم، ويغتصب جثث النساء ويدفنها بعد أن تنتهي صلاحيتها تحللًا وتعفنًا. كما كشف الاقتتال عن حقد «أبراهام» اليهودي على أهل الحارة، وتخطيطه القذر لسرقة الآثار، وتجنيد العملاء.
مثَّل المعلم المتقاعد المهاجر الفلسطيني «أبو الرمز» أحد مفاصل الرواية، فهو كان يُدرِّس التاريخ ليعلم الطلبة التاريخ الحقيقي لا التاريخ المزور، وحرص على أرشفة كل ما يتعلق بالقدس وفلسطين، ورفض أن ينزح من الحي، فقد ملَّ النزوح واللجوء منذ كان طفلًا «لم يعد النزوح ممكنًا، واللجوء إلى مكان آخر سم قاتل». وكان «أبو الرمز» يعود دائمًا إلى أرشيفه وذكرياته وما تعرضت له أسرته في دير ياسين من قتل وبطش. وإيراد قصة «أبو الرمز» هنا للتأكيد على أن تقاعس العرب عن تحرير فلسطين، والانشغال بأنفسهم، أدى إلى هذه النتيجة، وانتقال الحرب إلى أوطانهم، فالاحتلال سرطان لا يتوقف إن لم يُجتث، قد لا يحتل بنفسه، لكنه يفسد ويخرب ويدمر.
الموضوع الأهم الذي نبشته الرواية، هو القوى العميقة التي تسيطر على البلد والمنطقة، ومثلهم في الرواية «أخوة الحليب» هذه الجماعة السرية التي تتحكم بالبلد، وتخطط له، وما الاقتتال الداخلي إلا ثمرة لجهودها، وبتخطيط قذر منها، تتحكم بالمناصب والسلطة، ولها أعوانها في كل مكان، وكان رجلها البارز في الرواية «إبراهام» اليهودي، وتبعته ابنته «ليزا» التي كان قسمها «أقسم أن كل شيء مباح من أجل بناء الهيكل» وهذا دلالة على أصابع اليهود القذرة وراء كل ما يحدث، ليس إيمانًا منا بنظرية المؤامرة، بل بالواقع المرّ الذي يتشكل أمام أعيننا بتخطيط من اليهود وأعوانهم، واقع ظاهر للعيان، لا ينكره إلا مطموس البصر والبصيرة. وهذه الجماعة كما وصفها «إبراهام»: «هم جماعة، أو قل جماعات، تآخوا عبر جمعيات سرية في أكثر البلاد، شرقها وغربها، يحاولون أن يسيطروا على الثروات والقرارات السياسية والاقتصادية» وهم لا يؤمنون إلا بالمال والقوة، ولا شيء مقدس عندهم.
وبعد؛ فعلى الرغم من المآسي والدمار ومشاهد القتل والأشلاء التي صورتها الرواية، إلا أنها تتميز بالجمال لغة وسردًا وتغلغلًا في أعماق شخوص الرواية وكشف دواخلهم وعذاباتهم، وخبث بعضهم وعفن بواطنهم، من خلال راوٍ عليم مطلع على كل صغيرة وكبيرة. وهي رواية مترعة بالترميز والأسئلة المقلقة. وكانت خاتمتها مبشرة بالفرح الآتي، والخلاص من خلال تحرر عبدالسلام وإصراره على إعادة تمثال الإله «حدد» رمز المدينة إلى المتحف بعد سرقته، على الرغم من الرصاص والحواجز، وظهور طيف «البتول» تبارك روحه التي ارتقت فداءً للمدينة ووجودها.

القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم