هيثم حسين

إن الأمكنة التي تدور فيها أحداث أي رواية لها تأثيرها الكبير، فمثلا الرواية التي تدور أحداثها في بلاد صحراوية تأتي طبائع شخصياتها وأفكارها مغايرة عن الرواية التي تجري أحداثها في بيئة شمالية باردةـ وهكذا فإن للمكان أهمية كبرى في تحديد أفكار كل عمل روائي. وإن كنا تحدثنا عن اختلاف مكاني أرضي، فهناك أيضا روايات تحدث في عرض البحر، ولها طابع مختلف.

يصور الروائي الكندي مايكل أونداتجي في روايته “مائدة القط” رحلة صبي من سريلانكا؛ موطن الكاتب، إلى بريطانيا، مروراً بعدد من الحواضر على البحر الأحمر وقناة السويس، وما تخللها من محطات تغيّر في نظرته للحياة والواقع.

ينسج أونداتجي روايته (الرواية من منشورات روايات، ترجمة زوينة آل تويه، الشارقة 2019) على طريقة المذكرات والسير الذاتية، من ميناء كولومبو يتحرك الطفل صاحب الحادية عشرة من عمره، ويصعد على متن الباخرة الأولى والوحيدة في حياته، بدت له وكأن مدينة أضيفت إلى الساحل، مضاءة أفضل من أي مكان آخر، وصعد إلى المعبر وهو يرقب مسار قدميه، واستمر إلى أن واجه المرفأ والبحر المظلمين.

رحلة مثيرة

21 يوماً من ميناء كولومبو باتجاه إنجلترا
21 يوماً من ميناء كولومبو باتجاه إنجلترا

يحاول الراوي، المسمى مايكل على اسم المؤلف نفسه، أن يتخيل الفتى على متن الباخرة، وأنه لعله لم يساوره حتى أي إحساس بذاته في غمرة سكونه المرتبك على سريره الضيق، وكأنما هرب مصادفة دونما معرفة بالفعل إلى المستقبل.

يتساءل الطفل عما كان في حياته قبل أن يستقل الباخرة، وأنه حين كان في بلدته كانت هناك دوماً قوارب صيد في أفقهم، كانت أطول رحلات قام بها إما في السيارة وإما بالقطار إلى بلدات مجاورة، في حين أن رحلته على الباخرة ستكون إلى إنجلترا، وسيخوضها بمفرده.

يشير إلى أنه لم يذكر بأن رحلته ستكون تجربة غير عادية أو مثيرة أو خطرة، ولذلك لم يقبل عليها بفرح أو خوف، لم يتم إخطاره بأن للباخرة سبعة طوابق تحمل أكثر من ستمئة شخص، منهم قبطان وطهاة ومهندسون وبيطري، وأنها تضم سجناً صغيراً وأحواض سباحة.يلفت إلى أنه جرى الحديث عن حقيقة وجوده في البحر 21 يوماً بأنها أمر غير ذي أهمية كبيرة، ولذلك لم يثر استغرابه أن يزعج أقاربه أنفسهم حتى بمرافقته إلى الميناء، وقد خيّل له أنه سيركب حافلة بنفسه، ثم يبدل بها أخرى في تقاطع يألفه.

يقول إنه عندما ركب السيارة إلى الميناء شُرح له أنه بعد أن يقطع المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر، ويعبر قناة السويس إلى البحر المتوسط، سيبلغ ذات صباح رصيفاً بحرياً صغيراً في إنجلترا، وستستقبله أمه هناك. ويلفت إلى أنه لم يكن سحر الرحلة أو مداها ما بعث فيه القلق، وإنما كان سؤال كيف ستعرف أمه موعد وصوله تحديداً إلى تلك البلاد الأخرى، وما إذا كانت ستكون هناك.

يتحدث كيف تم وضعه مع أشخاص آخرين على المائدة رقم 76، التي كانت تبعد عن مائدة القبطان التي كانت في الطرف المقابل من صالة الطعام، وكيف أن امرأة تدعى لاسكيتي كانت معهم على الطاولة قالت بأنه يبدو أنهم جلسوا إلى مائدة القط، وأنهم في المكان الأقل منزلة هناك.

يلتقي على متن الباخرة بقريبته البعيدة إملي التي كانت تكبره، والتي لم يكن قد رآها منذ أكثر من عامين، وكانت في ما سبق صديقة قريبة منه يخبرها بمغامراته ويصغي إلى ما تقول له، وكانت صادقة معه، ولأنها كانت أكبر منه فقد حاول أن يصيغ نفسه وفق أحكامها.

يشير إلى أنه على متن الأورنسي كانت هناك فرصة التهرب من الأوامر كلها، وقد أعاد اختراع نفسه في هذا العالم الذي بدا خيالياً بمن فيه من مفككي سفن وخياطين ومسافرين كبار يترنحون في الحفلات المسائية برؤوس حيوانات ضخمة وبعض نساء يرقصن وبالكاد تغطي أجسادهن ثياب، وتعزف الفرقة الموسيقية ألحانها المعتادة.

متع وأسرار

الروائي الكندي مايكل أونداتجي يكتب رواية متخيّلة لكنها تتخذ في بعض الأحيان أسلوب المذكرات والسيرة الذاتية
الروائي الكندي مايكل أونداتجي يكتب رواية متخيّلة لكنها تتخذ في بعض الأحيان أسلوب المذكرات والسيرة الذاتية

يقوم الراوي بتدوين أحداث تقع على متن الباخرة، منها حين اندلعت فوضى في صالة اللعب حين هاجم مسافر زوجته أثناء لعب الورق، وذهب التهكم مذهباً بعيداً في اللعب بالأوراق، وكانت هناك محاولة خنق ثم خرقت أذنها بشوكة طعام، وفرض بعدها حظر تجول ناتج عن ذلك.

يصف النوم بأنه سجن لفتى له أصدقاء يود لقاءهم، وأنه وأصدقاء كانوا نافدي الصبر مع الليل، يصحون قبل أن يحيط شروق الشمس بالباخرة، ولم يكن يسعهم الانتظار حتى يواصلوا اكتشاف الكون على طريقتهم الطفولية الخاصة، في ذلك العالم المتنقل بهم والمتبدل من حال إلى حال في اليوم نفسه. يتساءل عن ماضيه، وأنه لا يتذكر أي بصمة خارجية، ولا يتذكر أي إدراك بذاته، وأنه لو قدر له أن يخترع صورة من الطفولة لنفسه ستكون عن فتى حافي القدمين يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً قطنياً، مع حفنة من الأصدقاء في القرية، يعدون بمحاذاة الجدار المليء بالعفن الفطري الذي كان يفصل البيت والحديقة عن حركة المرور على الطريق السريع، أو ستكون له صورة يكون وحيداً وهو ينتظر ويشيح بنظره بعيداً عن البيت إلى الشارع المغبر.

يظن أن صديقه كاسيس غيره خلال الرحلة وهو يقنعه بأن يفسر كل شيء كان يقع حولهم من وجهة نظره التهكمية أو الفوضوية. وينوه إلى  أنه على الرغم من أن واحداً وعشرين يوماً تعد فترة قصيرة جداً في حياة المرء، إلا أنه لن ينساها أبداً، وفق تعبير صديقه الذي مضى لاحقاً في طريقه، وافترقا كل إلى وجهته الحياتية.

يتحدث صاحب “المريض الإنجليزي” عن تأثير الزمن على المرء، وكيف أنه يغيّر نظرته للأحداث والوقائع ويضفي عليها طابعاً مختلفاً، ومن هنا تراه يدفع راويه لأن يعترف أن الأسابيع الثلاثة التي قضاها في الرحلة البحرية، كما يتذكرها في الأصل، هادئة، وأنه بعد سنوات، حين حثه أبناؤه على وصف الرحلة، أصبحت مغامرة وهو يراها بعيونهم، بل أصبحت شيئاً مهماً في حياته، أو ما يصفه بطقس عبوره.. ويلفت إلى أن الحقيقة هي أن العظمة لم تضف إلى حياته بل أخذت منها. يتأسى وهو يتذكر تفاصيل الحياة الجميلة الساحرة بالنسبة إليه حينها، وكيف فقدها حين عادة إلى إنجلترا، وظلّ يفتقد متعتها وحميميتها.

تكون مائدة القط التي يجلس حولها الراوي ورفاق الرحلة الذين فرض عليهم الجلوس معاً، نقيضاً لمائدة القبطان التي كانت تستقطب علية القوم، ويقول الراوي إن كل واحد على مائدته كان سبباً مثيراً للاهتمام برحلته، حتى إن كان سبباً غير معلن أو غير مكتشف بعد له حينها.. وعلى الرغم من ذلك استمر وضع مائدتهم على السفينة متدنياً. يصرح كذلك أنه تعلم درساً صغيراً في رحلته، يتمثل في أن أكثر الأشياء متعة وأهمية تحدث غالباً سراً، وينوه إلى أنه في أماكن تغيب عنها السلطة، لم يكن يحدث شيء ذو قيمة دائمة إطلاقاً في المائدة الرئيسة، كان ما يجمعهم بلاغة مألوفة، هؤلاء الذين يملكون السلطة يواصلون الانزلاق على طريق مألوف صنعوه لأنفسهم. يضع أونداتجي في نهاية الرواية ملحوظة يقول فيها إنه مع أن “مائدة القط” تتخذ في بعض الأحيان أسلوب المذكرات والسيرة الذاتية ومواقعهما، إلا أنها رواية متخيّلة بدءاً من القبطان، والطاقم وسائر المسافرين بالباخرة، وانتهاء بالسارد.. ويذكر كذلك أن الباخرة المذكورة في الرواية هي إحالة متخيلة.

العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم