شموخ الحجازي - السودان

«سأكتب رواية، نعم سأكتب.. لابد أنها فكرة غريبة حقاً، حين ترد إلى ذهن رجل أمن متقاعد مثلي أنا عبدالله حرفش، أو عبدالله فرفار، كما ألقب منذ الصغر في الحي الذي نشأت فيه وكبر معي اللقب».

هكذا ابتدر صائد اليرقات قصته، ثم راح السارد بقلم كراقصة باليه متمرسة أو كريشة في ليلة شديد الهواء يقفز من حشرة إلى أخرى ليمتعنا بجمال ما خطّ حبره، مرةً بقصة صاحب المكتبة المسيحي، وأخرى وهو يلاحق الروائي (أ. ت) الذي كتب رواية (على سريري ماتت إيفا) ويتفنن حين يمدنا بمشاهد التقائها والتي تتصاعد إلى أن نشهد موتها على سرير البطل.

يأخذنا بنفس الخفة الممتعة ليحكي لنا عن معاناة عبدالله حرفش بعد أن فقد وظيفته المرموقة في جهاز الأمن، وهو الذي كان يحظى بتقديس الجميع، ثم صار يُعامَل بالامتعاض والإنكار من قِبل المسيحي صاحب مكتبة الأعلاف، والخياط الذي كان يلاقيه هاشاً باشاً ثم انقلب إلى معاملة لا تخلو من الاستفزاز. وأيضاً معاناته مع رِجله الخشبية التي تسببت في فصله من العمل. ورغبته في كتابة الرواية أيضاً. ليأتي السارد مرةً أخرى ويقحمنا في قصص العمة وزوجها سارداً لنا مقتطفات من حياتهما المليئة بالقفشات.

ومما أضحكني - حد القهقهة - ما ورد على لسان عبدالله حرفش يحكي فيه عن عمته وزوجها (ص٢٨): (أذكر أنها رجتني مرة أن احتجزه في أحد دهاليزنا المظلمة حتى تستريح من وجهه وأفعاله. لكنها عادت وبكت ورجتني ألا أفعل. وكان المدلِّك على وشك أن يختفي إلى الأبد، وبحوزتي تقرير من أربع كلمات فقط، كتبته بلا مشاعر ولا إحساس بالذنب: يتخابر لصالح دولة أجنبية).

زوج العمة يعمل مدلِّكاً بأحد الفرق الرياضية ويهوى التمثيل على خشبة المسرح. ويوم حظي بفرصة التمثيل مثّل دور عجوز يلتقي بحبيبته بعد سنين عددا، ومن هول الصدمة يقع مغشياً عليه.. جار عبدالله حرفش (ع. د) كان يعمل مشجعاً لفريق رياضي وحفار للقبور كرّمه الرئيس لعمله الإنساني مما أدى إلى جنونه ونقله إلى المستشفى.. و(ع. د) كان متصوفاً يرتدي جلباباً أخضر اللون، ويحمل سبحة طويلة من اللالوب، ويرتدي سوار الروماتيزم على معصمه. وكان له صوت جهوري يساعده على التشجيع.

هاتان الشخصيتان كانتا الملهمتين لعبدالله حرفش وقرر أن يكتب عن حياة أحدهما أو كليهما، لأجل ذلك تقرّب من الروائي (أ. ت) وخلق معه علاقة طيبة من خلال لقائه في مقهى (قصر جيمز). عرض حرفش عليه أول كتابة له عن التفاحة، وهي قصة لامرأة مشبوهة كان يراقبها أثناء خدمته. عندما قرأها على (أ. ت) كشف أمره بأنه من الأمن وسأله عن ذنبه الذي اقترفه حتى يلاحقونه بهذه الطريقة.

ردَّ حرفش على كلامه بأن أخبره بالحقيقة كاملة، وأخبره أيضاً برغبته في التغيير.. وبعد أن استرخى (أ. ت) قال لحرفش (ص٨٥): (أنا أشبِّه الكتابة بأطوار نمو الحشرة.. أنت كتبت يرقة لن تنمو إلى شرنقة وتكامل دورتها. هذا التقرير الأمني مجرد يرقة ميتة خرجت من ذهنك.. حاول أن تطورها إلى باقي الأطوار).

برع السارد في جعل الصور التي يرسمها لنا مرئية عندما حكى عن مقهى البئر مرة، وعن مشهد ارتطام زوج العمة على خشبة المسرح مرة أخرى، وعندما غاب الروائي فجأة عن عين عبدالله حرفش والقلق الذي لحق به. وكيف أنه اتهم الروائي بسرقته شخوصه الذين أراد أن يكتب عنهم في ذلك الوقت عندما أخبرته صاحبة سروال الجينز الباهت باختفاء (أ. ت)، وهي من زوار المقهى ومعجبات (أ. ت)، وأيضاً مشهد نقله إلى المستشفى وتوافد الجميع إليه محمّلين بالهدايا. كانت مشاهد ناطقة بمعنى الكلمة.

وكانت النهاية مدهشة؛ حيث أن الروائي (أ. ت) اختفى ليكتب عن عبدالله حرفش، وأنهى روايته بإرجاع حرفش إلى الخدمة حتى تكون النهاية محكمة. وبالفعل طلبت الدولة من حرفش الرجوع للخدمة برتبة أعلى مقابل مراقبته للروائي ورفقائه. ليصدم (أ. ت) حرفش، أولاً ببراءته من اتهامه له بسرقة شخوصه. وثانياً أمام الرواية التي تحكي قصة حياته والتي أسماها صائد اليرقات. نحن أيضاً صُدمنا أمام التساؤلات الحائرة حول قصة (أ. ت) والتي قد تكون بداية أحرف اسم المؤلف (أمير تاج السر) أو قد لا تكون.

وصائد اليرقات هذا هل هو موجود على كوكبنا حقاً، أم أن أمير تاج السر من خلق هذا الصائد الذي اصطاد اهتمامنا قبل أن يصطاد اليرقات. صائد اليرقات رواية احتوت على عدة روايات تدير حبال الأحداث بيدٍ ماهرة تعرف متى تفلت حبل الحدث الأساسي، ومتي تمسك به بمنتهى السلاسة. تلاعب عقل القارئ، الذي يقف برهة ليدرك أي الحبال أمامه. مما أضفى على القراءة متعةً وتشويقاً.

الرواية من ١٤٧ صفحة، طبعت في عام ٢٠١٠م، بواسطة دار ثقافة للنشر والتوزيع. شموخ الحجازي _السودان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم