محمد السيد حمد

طرق الروائي حمور زيادة باباً آخر من أبواب التابوهات السودانية المسكوت عنها، فى روايته الغرق: حكايا القهر والونس يفتح ملف الرق فى سودان النصف الأول من القرن العشرين من خلال تصويره لمأساة المرأة السودانية المسترقة فى فضاء سردي تجرى أحداثه على أرض احدى قرى الشمال النيلي. تدور الرواية حول ثيمة محورية أساسية و هى القهر المنبثق من مؤسسة الرق و ثيمة ثانوية وهي الغرق بوصفه احدى متلازمات ذلك القهر حيث يكون هو النهاية الحتمية لضحايا القهر. وهذا الغرق رغم أنه يبدو غرقاً محضاً فى غياهب النيل إلا أنه يحمل فى طياته مجاز آخر لغرق القاهر والمقهور معاً فى بحر من ظلمات العادات المجتمعية الضارة تحت غطاء أخلاقى يبرر مؤسسة القهر بدعاوى الحفاظ على ارث الجدود.

الفضاء السردي للرواية محتشد بالعديد من الشخصيات، بعضها له ثقله الدرامى و البعض الآخر يبدو كإضافات تخصم من العمل اذ انها لم تنل حقها من التصوير الفني والبسط السردي لديناميات تفكيرها الداخلية و انعطافات مصائرها الحياتية. الشخصية المحورية فى الرواية هى "نايت فدو" الأَمَة المُحَرَرة التى لم يكن صك حريتها سوى ورقة ابتلت بمياه نيل الموروثات العشائرية و انمحى بذلك البلل حبر الحرية، فظلت مؤسسة الرق قائمة اجتماعياً حتى بعد زوالها من أروقة المكاتب الحكومية. تتبع الرواية سلسلة من النساء المسترقات تبدأ بالجدة الكبيرة التى تم اختطافها من مسقط رأسها فى الاحراش  الجنوبية البعيدة و تم بيعها الى عائلة الناير بيت العمودية، و من  حلقة الجدة الكبيرة تأتى الحلقة الثانية من السلسلة و هى ابنتها "عز القوم" و قد انجبت من خلال علاقة غير شرعية و من ثم تأتى الحلقة الثالثة "فايت ندو" ثم الحلقة الرابعة ابنتها"عبير". الرابط الأساسى بينهن تعرضهن للقهر بجميع مستوياته ابتداءا بالاستغلال الجنسي مروراً بالاحتقار و التحجيم المجتمعى وانتهاءً بسلب حقهن فى الحياة من خلال حزمة من الإجراءات المهينة.

تركز الرواية على "فايت ندو" و بنتها "عبير" و تعرضهما للقهر الممنهج من خلال الآليات الاجتماعية و الاقتصادية لمجتمع القرية. و تدور على جوانب السرد أحداث الصراع على السلطة"العمودية" بين العائلتين الكبيرتين عائلة الناير و عائلة البدرى. تتشابك مصائر الفتاة و أمها مع صعود و هبوط وتيرة هذا الصراع الأزلى على السلطة و الثروة. فايت ندو كانت من رقيق بيت العمودية عائلة الناير و بعد تحريرها بصدور مرسوم انهاء تجارة الرق لم تنتهِ علاقتها بعائلة الناير فما زالت تزورهم و تخدمهم فى مناسبات الأتراح و الافراح و استمرت دائرة القهر فهي وإن تحررت رسمياً على الورق إلا أنها فى نظر مجتمع القرية ظلت الأمة المسترقة. و شملت دائرة القهر أيضاً ابنتها المراهقة "عبير" حيث انها كانت الكنيف الذى يقضى فيه ذكور القرية شهواتهم و نزواتهم الجنسية في أي مكان وأي زمان و ليس لها حق الرفض أو ترف الاختيار.

فى خلفية المشاهد السردية تتمظهر التحولات السياسية والانقلابات العسكرية التى شهدتها البلاد وتنعكس على حيوات الشخصيات الروائية فنجد أن ابن العمدة "محمد سعيد" الطالب بكلية غردون و الافندى المرتقب يتخلى عن حلمه بأن يصبح شاعرا فى العاصمة و يقطع دراسته ليتولى العمودية بعد وفاة والده لكيلا يمنح المستعمر الانجليزى العمودية لعائلة البدرى. وحين اندلاع ثورة مايو واستلام العسكر لدفة الحكم ، يتملك الهلع العمدة "محمد سعيد" ويخاف على منصب العمودية فيرسل برقيات التأييد للانقلابيين ضارباً بولائه السياسى لطائفة الختمية عرض الحائط ولا يجدى ذلك التصرف البراغماتي نفعاً فبعد حين يلغى الانقلابيين نظام الادارة الاهلية ولا يبقى لعائلة الناير من العمودية سوى لقب العمدة.

وبين تقلبات صراع عائلتى البدرى و الناير على العمودية  تنمو قصة عشق و وله بين بشير ابن عائلة الناير وسكينة ابنة عائلة البدرى و يبدو تتويج هذا العشق بالزواج مستحيلاً نسبة للصراع الأزلي بين العائلتين إلى أن  تتزوج سكينة من ضابط بقوة دفاع السودان من احدى القرى المجاورة و يلقى حتفه فى معارك كسلا و كرن ضد الغزو الطلياني ثم يتزوجها بشير بعد أن كاد يفقد عقله اشيتاقاً لها.

مؤسسة القهر لا تتجلى فقط في معاناة الرقيق وانما تظهر أيضاً داخل العلاقات الاسرية فى البيوتات الكبيرة فنرى تخلى العمدة "محمد سعيد" عن حلمه فى أن يعيش حياته افندياً بالعاصمة و يرضخ لضغوط عائلته كى يقطع دراسته و يتولى منصب العمودية بعد وفاة أبيه و نفس الضغوط مُورست أيضاً على بنت عمه "الرضية" لكي تتزوجه فتصير الرضية  فيما بعد حارساً لمؤسسة القهر وقوة فاعلة في ممارسته و حفظه بتفانيها وإخلاصها في إذلال فايت ندو و بنتها عبير و لعبها لدور شرطية العادات والتقاليد على جميع أهالى القرية.

بالرغم من سلاسة الحكى الروائى و اللغة ذات الطابع السهل الممتنع إلا أن اختيار الكاتب أن يستخدم صوت الراوي العليم قد ألحق الضرر بمتانة بناء  بعض الشخصيات الروائية فأضحى بنائها غير شديد التماسك حيث لم يسبر الكاتب اغوار معاناة الشخصيتين الرئيستين فايت ندو و ابنتها عبير و قد كان ذلك ممكناً ان استخدم الكاتب تكنيك تعدد الاصوات ليعطى كل شخصية حقها فى البوح و السرد و يرى القارئ الفضاء السردي للرواية بعيون مختلفة مما يؤدي إلى إثراء العمل السردي. واستخدام تيار الوعى على لسان الشخصيات الروائية يتيح للكاتب التوغل فى التركيب النفسى لتلك الشخصيات مما ينعكس بشكل ايجابي على ايقاع التسلسل الدرامي للأحداث فلا يحدث تعجل فى قطف ثمار الحبكة الروائية. تبدو الرواية في مُجملها شيقة وجاذبة إذ أحاطت بمشهد آبق وموبق وأحد المشاهد المربكة في ذاكرة العقل الجمعي السوداني.

كاتب سودانى  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم