د: عبد الباقي جريدي

بعد أن راجت مُنذُ أيام شُبهة اِنْتِحال مُسَلْسل النّهاية ليُوسُف الشَّريف الذي يُبثّ عَلَى قَنَاة أُون المِصْريَّة في شَهْر رَمَضَان هَذه السَّنَة لرواية 2084حكاية العربي الأخير للرّوائي الجزائري واسيني الأعرج.

فقد مثل الموضوع مجال اهتمام الصّحافة العربيّة والعالميّة وقد كتب الرّوائي نفسه على صفحات القدس العربي  الُّلندنية في مناسبتين مقالين الأول بعنوان النهاية سرقة مفضوحة من حكاية العربي الأخير.  

والثّاني فصل المقال فيما بين التناص والتلاص من انفصال واتصال في رد واضح من صاحب الرّواية على ما راج من أنّ المسألة لا تعدو أن تكون مجرد تناص. وهو ما دفعني إلى البحث في علاقة الرِّوَايَة بِفَنّ السِّينما وقُدْرة الكَاتِب عَلَى استِرْفَاد التَّقنيَّات السّينمَائيَّة والفَنّ السَّابع وتَوظِيفِهِ إنصافا للرواية وبحثا في مجالات استرفادها وكشفا لتعدد الفنون في متنها وخاصة السينما.

فقد مثّلت الرّوايةُ الخزّان الذي لا ينضُبُ لأهمّ الأعمال السّينمائيّة شُهرة وانتشارًا إذْ اسْتَفَادَت الرّواية العربيّةُ من التّقنيات الحديثة في التّصوير السّينمائي. فالعلاقة تفاعُليّة بين هذين الفنّين[1] . ويعتمد واسيني الأعرج التَّقْنيات السِّينِمَائيَّة فِي وَصْفِ الفَضَاء الرِّوَاِئي بطريقة لافتة للنظر من قَبِيل المُونتاج، الكولاج والَّلوحة والإِضَاءة والمُوسِيقَى التَّصويريَّة وغَيرِهَا مِن التَّقنيات التي بدت حاضرة في النُّصُوص الرِّوائيّة فــــــ    " عِنْدَمَا نتأمّل مَشْهَد الرِّوَايَة العَربيّة المُعَاصِرَة نجدُ أنّ الأسلُوب السيّنمائي قَدْ أَخَذَ يتسلّل إليْه عَبْرَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ القَنَوَات بِنِسَبٍ مُتفاوتة لدى الكُتَّاب " [2]. .وقد لا حظنا حضور التّقنية السّينمائية في أعمال واسيني الأعرج في المشاهد واللّقطات . تكاد تضاهي مشاهد منقولة عن أفلام سينمائيَّة فيقَدِّمُ المَشْهَدَ العام ثمَّ ينتقلُ إلى التَّصنيف والعكس صحيح.

ومن بين أهمّ الرّوايات التي استدعت السّينما في تقديرنا هي 2084 حكاية العربي الأخير فالموضوع  شبيه في الكثير من ملامحه ببعض الأفلام العالميَّة تُنذر بخراب العالم وترسم العودة إلى الوحشيَّة، وإن بأشكال وطُرق مُختلفة مُرتبطة أيّما ارتباط بالسّينما وخاصّة سينما الخيال العلمي .هذا إذا أضفنا أنَّ النّص الذي استدعاه الكاتب وهو نص جورج أورويل من روايته الشَّهيرة الموسُومة بــــــــــ  1984 .قد حُوّل إلى فلم سينمائيّ سنة 1984 من إخراج  البريطاني (Michael Radford )  .هذه الرّوابط التي تشُدّ السّينما إلى الرّواية والرّواية إلى السِّينما لتؤسّس لعَلاَقة  حواريَّة تصلُ الرِّواية بعَالم السِّينما وتشدُّ العالمين إلى بعضهما البعض .و لا تقتصر عند الرّوافد أو النُّصوص المُتشابهة. بل تحضر كذلك على المستوى التّقني من ذلك اعتماد التأْطير "الكادراج " (cadrage  (للمشاهد انطلاقا من مشهد عامّ في البداية ثم يقع تفصيله وتجزئته انتقالا من فضاء عام أو فضاء عالٍ قادر على المُراقبة يحمل معاني السّيطرة والنُّفوذ .فكُل ما يطالهُ البصرُ يظلُّ قابلا للتّحكم ثم يتحوّلُ المشهد إلى فضاءات أكثر خصُوصيّة وأقلّ حجما . " الغُرفة البيضاء التي تحتل الطّابق السّابع والأخير كُلّه هي أهمّ وأعلى ما في القلعة تُطلّ على الكُلّ تُراقب حتّى التّفاصيل الصّغيرة والزّواحف التي تتقاتلُ في الرّمل في المدّ الذي لا حدّ له إلاّ الأسلاك الشّائكة المُكهربة .تبدو من الأعلى كبرج مراقبة في مطار أُهمل مُنذُ زمن بعيدٍ بنصاعتها الدّاخلية وبياضها تبدُو الغُرفة البيضاء كمستشفى شديد النّظافة .كُلّ شيء فيها يلمعُ ويعكس كلّ الحركات حتّى تلك غير المرئيّة ، إلاّ جزأها الدّاخلي العميق الذي يتماهي فيه النور بالظّل ، حتّى يصبح ظلمة لا يُرى فيها شيء إلاّ الظّلال التي تضيق وتتسع بحسب حركة الشّاشات المعلّقة في كلّ مكان " [3].

هذا المشهد المصور باللُّغة يكادُ يُضاهي بعض مشاهد من الأفلام الغربيّة التي تجري في فضاءات مشابهة للفضاء الموصوف في الرّواية. وتبدو صورة الذّئب رماد أقرب إلى الصُّور المألوفة في الأفلام الغربيَّة. وخاصّة في الفِلم العَالَمِي ذائع الصِّيت. الرَّقْص مَعَ الذِّئاب الصَّادر سَنَة 1990  من إخْرَاج كِيفِنْ كُوستنر(Kiven costner) .  و هو بدورهِ مُقْتبس من رواية لمايكل بلاك (Michael Blake) سنة 1988.تحمل العنوان نفسه فصُورة الذئب الرَّمَادي المُنفرِد الذي يَظْهَرُ وَيَخْتفي فِي قِمَم وأعالي الصَّحراء والجبال  هي من الصُّور المُتواترة في الرِّوايَة نَاهِيكَ عَن البُعد الرّمزي والأسطُوري للذِّئب  " منذ مائة سنة والذّئب رماد يركضُ بلا تعب ولا نهاية مُختَرِقًا هذِه الجِبَال وهذه التّلال كرياح شتويّة .أصبح يقرأ عُنف الأشْيَاء مِنْ حَرَكة الأَوْراق واهْتِزاز الشّجَر ورعشَة القَمر. كُلَّمَا أراد أن يُفرغ صَدْره من التّعب عوى عاليا رافعا رأسهُ باتِّجاهِه" [4].

و تبدُو هذِهِ المَشَاهِد مألُوفَة للقَارئ. اسْتَرفَدَهَا الكَاتبُ ليُدْمِجَها مع سياقاتٍ جديدة تفتح النّص على السّينمائي والمشهديّ فتضرب بسهم عميق في الجانب الرّمزي والأُسْطُوري. فالذّئب مِنَ الحَيَوَانات المُحتفى بها في الرّوايَة وفي السّينما. ترتبطُ صُورته بعديد المعاني والدّلالات. من بينها العُزلة والقُوّة والتّفرد والإخلاص وغير ذلك من المعاني جمعها السّارد في صُورة الذّئب رماد .ولا تخلو الرّواية من مشاهد تُحيل على أفلام الخيال العلمي تُصوّر الحُروب والمجاعات في قلب الصّحراء الخالية وترسم مستقبلا مليئا بالصّراعات والدّماء  وقد حفلت الرِّواية بِمثْلِ هَذِهِ المَشَاهِدِ المُحِيلَة عَلَى نَمَطٍ كَامِلٍ مِنَ الأَفْلاَم الدّارجَة وَخاَصَّة في السِّينِمَا الأمريكيّة فِي التِّسْعِينَات .

كل هذه العناصر أغرت أصحاب المسلسل التلفزيوني النّهاية باعتماد بعض ما جاء في النّص من قبيل  شخصية العالم آدم غريب الذي يستعدُّ لصناعة قُنبلة الجَيب النّوويَّة وخاصّة مشهد المُكالمة الهاتفيّة الوهميّة بين العالم وزوجته المُتوفية باعتماد تقنية الهيلغرافي L'héliographie  والتي وقع فيها ضحيّة خداع أجهزة المُخابرات باستعمال أحدث التَّقنيات ما فَسَحَ المَجَال  أَمَام شُبهَة الانْتِحَال هَلْ هو مُجرَّد تَشَابه عفوي مِنْ قَبِيل الصُّدف السِّيئة  أَوْ مِنْ بَابٍ وَقْع الحَافِر عَلَى الحَافِر كَمَا قال القدامى أم هو انتحال وَسَرِقَة موصُوفَة وهو ما تُرجحه فيما نقدر كل الوقائع والتفاصيل الواردة في العمل والتي تجعل من المسلسل انتحالا لا غبار عليه من الرّواية وسرقة موصوفة كما وسمها الأعرج في رده على القائلين بالتناص ليسمه باللُّصوصوية في المقال المذكور أعلاه ؟؟؟ 


[1]: برزت عديد الأعمال السّينمائيَّة فاقت شُهرتها النُّصُوص المُقتَبَسة منْها. مِنْ ذَلِكَ الشَّحاذ والثُّلاثيَّة لنجيب محفوظ ودعاء الكروان لطه حُسين والعَديد مِنْ أعمال إحسان عبد القُدُّوس. مِن قبيل لن أعيش في جلباب أبي وغيرها.

: صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، سورية دمشق ، دار المدى للطّباعة والنشر ،2003 ،ص 195[2]

: 2084حكاية العربي الأخير صص 13/14.[3]

[4] : المصدر نفسه ، ص 17.

* باحث من تُونس

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم