أمين غانم

في كل حقبة يتحتم على الرواية مواجهة نفسها أولاً قبل مواجهة العالم، هكذا تتجدد صيرورتها بتوالي العصور والأحداث الكونية، وكأن فن السرد هو المعني الأول بالتردي الكوني لاسيما بعد إنحصار مهمة الفلسفة لمجرد راصد غير مؤثر في مجرى الأحداث .

النظام العالمي يجد مبتغاه في التدحرج ككرة الثلج او النار لافرق، لكسب المزيد من الثروة والنفوذ، وغدا وجه البسيطة مسرحاً مفتوحاً لحركته وتخبُّطه.

لقد فًتحت الأبواب كلها، وباتت السيادة الوطنية مجرد حارس أمين لمطامع القوى الكبرى.

ومن وسط أنكمشت فيه مجابهة تغوّل الثروة تمضي الرواية كحامل غير منظور لكل ما تعذّر المضي به، كأنها باتت اللواء الساتر لحماية التوق الإنساني من مغبّة الإنزلاق والتلاشي، وفي كل مرّة تبدو كآخر قلاع الإنسانية طالما لم يداهمها الوهن والعجز فثمة أملا للعيش والتفاؤل بتحقيق العدالة.

الآن يخوض فن السرد جدلية وجودية ومن نوع آخر، أسئلة تحمل ذات السياق الذي يحتّم عليها خوض التجربة اولاً بالتعايش قبلاً مع العصر، او بالأحرى مزامنة الإنسان حتى النهاية، فليس ثمة معضلة إلا التخلّي عنه، والرواية بإعتقادي مازالت تملك القدرة الكفيلة بإمتصاص الخصوم والأسئلة المحيّرة وتحوّلها لطاقة تجدد وحيوية لاسيما بعد عبورها من شفا النهايات الوشيكة، وأخذت على عاتقها حماية الإنسان والحفاظ علي نزعاته وغاياته الأصيلة كجينات نقية منوط بها خلق العالم مجدداً او على الأقل الإستمرار في منحه الخيال حتى يمتلئ بالحب ليتمكن من الفعل الحقيقي.
لم تعد نظرة النقّاد للرواية وفق معايير ومقومات فن السرد، بل اضحت نكاية متجاسرة لتحمليها كل الأعباء المسكوتة، وصارت تمثّل أحياناً مواجهة ناعمة بين أطراف متبايتة ومن داخل الرأسمالية  لاسيما بعد إضمحلال  نظريات التغيير الأجتماعي والإقتصادي وذوبان إنتهازيّها بكيان العولمة الهائل والمترهل، هكذا تغدو الرواية الحقل الذي يتلقى  وبال التفكك النظري للأفكار والفلسفات والمثل وكل المحاولات الخاسرة لتحقيق العدالة، فالتراكم الهائل للخذلان يتحول بتعرضه للشمس والهواء لخصوبة خصبة مذهلة ولو جاءت ضمن تذمر ماكر يتفنن في تحوير لعنات المتوجسين والمتربصين بالفرص لبرجماتين يجدون الوسيلة للغوص في الأغوار اللزجة..

في رواية القرن الواحد والعشرين ثمة سياق لخلخة الذات ودفعها لعالم مفتوح، أشبه بتقمص الموجة للذهاب بعيداً، فليس أسوأ من التآكل في غياهب الغرفة المغلقة إلا مخاوف الخروج للعالم، فتجاهل تفشّي أدوات العصر الإلكتروني والتجاري ليس محمدة بقدر مايكن عزوفاً عن الحياة المشمسة في زمن تبددت فيه مزايا الإختباء في الزوايا الدكناء.
إنها نظرية ولادة تتشكّل بخطط رأس المال وتمضي في سياق فلسفته المترنّحة، حالة من التوائم بين الأضداد تغدو فرصة سانحة لمضي الإبداع وتحليقه خارج الأسوار، في اختصار الوقت  والوصول للإنسان في كل الأصقاع وسط غفلة غول الثروة وتغضّن أفكاره وغاياته، فلابديل من الوثوب في الحقل الواسع الخصب.

ومن وجهة نظر مناوئة يرى البعض: إن تجرد الرواية العالمية من المكان المحلي بخروجها للعالم ربما يفقدها الكثير من القراء الذين تمركزوا حول الكاتب قبلاً، حيث تقول كازانوفا:

إن حيازة مكان في خارطة الأدب العالمي، يعني الإفلات من سطوة المقاييس الزمنية المناطفية لأغلب الأدوات الوطنية التي تقبع متخلّفة بأشواط كبيرة من جبهة الآداب الطليعية من حيث التقنية الأدبية المعتمدة، ومن ثم الانضمام لنظام (توقيت غرينيتش الخاص بالأدب) كأن يعاد تعريف الحياة الأدبية الراهنة على نحو لاهوادة فيه تشتمل على ساعة فنية عالمية بحيث صار لزاماً على الكتّاب تعديل أعمالهم تبعاً لمواقيتها إذا ماارادوا الحصول على شرعية مقبولة لأسمائهم الأدبية، واعني شرعية القراء والنقاد العالميين.

لكن غاية الأدب أن يغدو عالمياً وإنسانياً كما بشر بذلك غوته، وليس من اليسير أن تنتظر الرواية الشروط المثالية كي تعلن خروجها للعالمية، فهي تتحرك في الشروط الناقصة والمريبة، فالسرد ماهو إلا خوض لغمار الخلل بالاستشراء توقاً لرتقه وتجاوزه إبداعياً.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم