سامي الطلّاق

" ضحك نورتا فجأةً وقال: كم أنا ضعيفٌ وأضحوكة, متورطٌ في نفسي الضعيفة, بينَ أن أكون ساحراً سطحياً وكاهناً غير صادق" ص. 327

هل نحن جميعاً نورتا!

اشتغالات اللغة "رواية تمثال دلما نموذجا"

ريم "الناصّ" هنا لاتلعب بالسرد، ولاتريد من السرد فنيّته بل تجعلُ منه أداةً للاشتغال بعملها وحسب، فلا مكان للسرد عبر ألسنة الشخوص سوى ماتريدهُ منهم أو ما أرادوا قولهُ عبر "الناصّ"-الكمالي- بسلاسةٍ تعبّر عنهم بديمقراطية الرواية الحديثة وفردانية العصر المعاش، بفضاءٍ زمني سحيق "الألف الثالث قبل الميلاد"-الذي ترفض الكمالي تسمية العمل ازاءه "بالرواية التاريخية" وتفضّل أنها عملٌ روائيٌ وحسب.

هذه الكيفية الروائية الشجاعة غير جاذبةٍ للقراء، حيث لاشكل عام بالسرد إلاّ مايحتاجه من لغةٍ وأداءٍ داخلي تؤدّيهِ-الكمالي- بامتياز، جعل من الرواية تزيح أخواتها من الأعمال وتُتَوّج بجائزة معرض كتاب الشارقة 2018 سنة اصدار العمل. جعل من القارئ يميّز أعمال الروائية الفائزة واشتغالها التاريخي بمناطق شبه مسكوتٍ عنها بالرواية والسرد كمناطق جذبٍ للكاتب الشجاع.

نورتا نورتا نورتا

لابطل وحيد بالعمل سوى اشتهاءات الأبطال الوجوديين بصبغةٍ دينية صرفة، حيث آلهات السومريين "يشبّهها الجميع بتاروت، عشتاروت، عشتار الجميلة، نانا كما يناديها الأجداد " والمعنيّ بها نينا "التاروتية" التي تهرب من جزيرتها لأرض دلمون "الفردوس" وتتعرّف على من يجلبها لجزيرة دلما وتمسي ربة دلما.

وتنجب كيلا الذي ينجب ازمي "معشوقة نورتا".

نينا المأخوذة بالخلود العظمة والمجد تطلبُ من نورتا الفقير الذي جاء من أهل خلف التل-القسم الفقير والمستعبَد للقمةِ عيشه- من جزيرة دلما، أن يصنع تمثالاً يخلّد الجزيرة ويحعلَ منها مزاراً وحجّاً لتسميّ التمثال "سيرارا" ( نذرَ نفسه في صنع وطنٍ لهذا الوجه.ملامحٌ فريدةٌ تؤثر في عين العابد السائل، مستشعرا وقت الحفر عطف قلبه، كي يغرس الطمأنينة في وجه الحجر).ص 13. صنعه من حجرٍ أصيلٍ حيث دلما مكونة من  " الدلمونيت الأحمر" والذي لايصلح للنحت بل يتناثر ويتهشّم بسرعة " تصيتُ الحجر أياماً حتى وجدتهُ يوماً قُرب جبل دلما  الملون". ص15.

هذا التمثال الذي سيأخذ مكانتهُ بعد مباركة كهنة دلمون الذين سيستقبلون "ربة دلمة"- ستمسي ربة بعد رحيل كيلا- ويُعجَبون به أيّما اعجاب ثم يأخذ مكانته المهيبة بمعبد دلما.. تلك اللحظة التي وجد فيها نورتا "الفقير المعدَم- ثم الكاهن العرّاف- قم النحات المتمكّن" أنها مناسبةً لخطبةِ ازمي حفيدة ربة دلما "اشتهاءهُ" والذي أرادها سُلّما للمجد والرفعة بعد وضاعة الفقر والتهميش.

نورتا "المرحليّ" المتذبذب "المتعلّم" دوماً مع نفسٍ تقودهُ نحوَ مصيره..الغريب المثير "محتضناً سيرارا الذي وضع فيه نورتا نفسه" أنظرُ الى سيرارا ..وأقول لها " هذا البحر الأسفل أنتِ آلهتُه" ص 323.

فما هو مصير نورتا المثير؟

العصر الأكدي وسرجون وسومر ودلمون

 من لذة السرد "الكشف" عن الحالة الاجتماعية لفضاء الرواية وأناسها,وهذ ما تكشقهُ بإتقان "الكمالي" التي هي خريجة تاريخ " أصبح الجميع الآن يعامل المرتفع وكأنه أمرٌ مقدس" ص27. حيث القداسة تلامس كلّ شيء،  وتعني التل الفاصل بدلما الجزيرة المعزولة التي تخاف المطر بالشتاء الذي يسربلها بالظلام لفترةٍ ليست قصيرة. بينما تصفُ علاج كيلا "رب دلما السابق" ابن نينا التاروتية بمرضهِ الذي مات به ( يتركُ نورتا كيلا نائما، ويسرع في خطواته وهو يأتي بالأساسيات من الحليب والزبد والخمر والملح، رباعيات الجسد والروح) أخرج الزعتر من وعاءٍ صغير لألم بطنه ) ص 30 .

كما أن السحر والعرافة والعيافة كانت منتشرة بتلك الفترة التاريخية " تمسّكت الأقوام البدائية بالسحر لأنها اعتقدَت به" ص30 . كما أن سومر مهد الحضارة التي يوفَد لها الأوفر حظاً تعلم بها نورتا الكهانة والنحت وبينهما شيئا من السياسة وقصة سرجون "السقّاء" الذي سينقلب على الملك السومري ليعلِن نفسه ملك الاتجاهات الأربعة ويغزو دلمون ومن ثمّ دلما شرقاً للسطو على خيراتهما وإخضاع كل الجزر بجواره. بوسط هذا يعدّ "البغاء المقدّس" وسيلة لطرح اشتهاءات الجسد والتفرّغ للعبادة للكاهن فكانت "أنونة" محل اشتهاءات معبد دلما والتي ذاقت جسد نورتا التي أشتهتهُ بوسط كاهنين عجوزين لايلبّيان احتياجات واهتياجات جسدها الشاب. " ابتعثتني الجدة ربة دلما الى بلاد سومر المتحضرة, تهيئني كاهنا لمعبد دلما, هناك فقط ميّزتُ بين السحر والدين" ص31.

وببلاد سومر "بلاد الرافدين" وعاصمتها أوروك تعرّف على سدهاشا الكاهن "المستقيل" الذي تزهّد بكرامته ووهب نفسه لوجوده المنغلق حيث آمن بعدم جدوى الانسان اتجاه "آلهات" يصنعها بنفسه ويهبها هو هيبته. غيّرت فلسفة سدهاشا نورتا من الداخل, لكنه لم يخضع لها ولا لأيّ سياقٍ ديني آنذاك فكان "براغماتيا" ظاهر التدين "باطنيّ الوجود" غلبه العشق لازمي فبات "غيورا" اتجاه عازف الناي ببيت كيلا، ظانّا حب ازمي له ومبادلته عشقهُ لها.

اشتغالات اللغة

الفضاء الزماني والمكاني والشخوص هي ماتحتّم على الروائي لغته بالعمل، ونجِد -الكمالي- هنا بارعةٌ باستعمال لغةٍ مناسبة فأوشوم الراعي العازف " أخرج من مخبأ ثيابهِ ناي العظم" ..كناية عن صناعة نايٍ آنذاك, أما نورتا "العاشق الغيور منه" (كم تمنيت النفخ على الناي، لكنني لم أتعلم سوى ضرب الجُنك) وهذه آلة موسيقية آنذاك لعلّها تشبه القانون حاليا أو القيثارة.

كما أن استعمال اللبان الماجاني كان رائجاً " أضعُ الليان على الجمر، يفوح المعبد دائماً بعبقٍ خاص" ص119.

فيكاد القارئ لايجِد جملةً شاذة عن المشهد الفضائي للزمان والمكان آنذاك، الذي يطلّ منه نورتا كثيراً " وقد تغرّبتُ كثيراً , وأحتكّيتُ ورأيتُ, واكتشفتُ ان الأرض في سعتها وضيقِها ...يتحكّم بها القلّة "..ص227

هل نجَح نورتا أن ينضمّ للقلة المتحكّمة!

هل نحن نورتا بمراحلهِ ونفسهِ ورغباته واشتهاءاتهِ وزهدهِ وسعيه المتخبّط !

_____________

"الغموضُ للآلهةِ والإبصارُ للإنسان"

نورتا الدلماوي

الرواية صادرة عن دار موتيفيت للنشر، 2018.

كاتب من السعودية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم