أمين غانم

نزهة فلسفية في غابة الأدب، حوار في كتاب من ترجمة الروائية والأديبة العراقية لطفية الدليمي، تبدو فيه الأسئلة أكثر وضوحاً وفائدة من بعض الأجوبة، بين الروائية الفيلسوفة آيريس مردوخ والفيلسوف بريان ماغي، الغموض ليس قصوراً معرفياً بل لإن جدلية الفن مازالت تدور حول ذات الأفكار الفلسفية والتي ماتفتأ  تبسط نفوذاً ما على حقول الفن، لكن في كل مرة يتضح أن الفن كالحياة لايتم إستيعابه والإنغماس بأعماقه إلا بمعانقته من الداخل، وكلّما سعت الفلسفة لفهمه كعمل قاصر يتحتم عليها إحتضانه ورعايته كلّما تمرّد ونحى بعيداً عنها.

كما يجابه الفقراء قانون الإستغلال يتحول الفن في أوقات كثيرة لضرب من التعايش الصوري وأحياناً الحفيقي مع الفلاسفة المحيطين به، منذ أفلاطون ذي الموقف العدواني من الفن والذي نعته كفنتازيا كاذبة تسعى لإمتاع الجزء الأنوي الأحمق، لكن كانت بدا أكثر تشويشاً وأقل رفعة من سابقيه، وجاء شوبنهاور ليطيح بموقف أفلاطون بقوله: الفن بمثابة إستخدام رفيع لملكات الفرد الحسيّة والأخلاقية وهو محاولة لتجاوز الذات برؤية أكثر شمولية للعالم.
تستمر الحياة بلانظرية رغم إحتدام الأفكار والنظريات حولها، فلا قانون يفسر عيشنا ولا فلسقة تختزل معاناتنا وتقدّم حلولاً جذرية ونهائية لإشكاليات الوجود وعبثية الحروب، لهذا يبقى الفن وسيلة الفرد للقيام بذلك وبشكل شخصي.
صيرورة غامضة حين يغدو الإنسان هو المتغير( المستفيد)  لوصل الوتيرتين معاً بدمجه للفن والحياة، في تماوج وتمازج غير مرئي تتزن العلاقة بين الفن والحياة وتتحول غالباً لإضغاث من واقع غليظ، وماتلبث أن تتبدل الحالة وتستحيل لإضطراب تختل معه نظم الحياة وتتجلّى وتتعاظم عند الإنسان كمؤثر قوي وصاحب القدرة والملكات، ببروز الفن العظيم، حالة من التجانس والتنافر والتكامل، نسق إميبي لا شكل له يربط ويفصل بين الفن والحياة  كفيض إنساني يشي بوجوده الجيد او الرديء  على ظهر البسيطة.

تبقى حركة الفن كإنقباض لاشعوري للعين تحسباً لأي خطر بعده نمتلئ بالغبطة والسكينة، هكذا يتلون نسق الحياة مع الإنسان والفن طبقاً لمن يرتقى ومن ينزلق وينحدر للقاع، وبين الإرتقاء والإنزلاق نتشرب كمجتمعات إنسانية من مياه الموج الهائل.

الفنتازيا ربما غدت مثلبة الفن عند جمهرة الفلاسفة وعلماء النفس بإعتبارها محاولة للقفز عن الحقيقة عبر تطويع العمل لصالح الكاتب، بحيث باتت المسؤولة عن كل شيء في الفن السيء، بإعتبارها غلقاً لأبواب التخييل والإدراك،  بيد أن عظمة الفن تبقى في الإشتغال على المثالب والبؤر المعيبة، فكلّما أطيح بأداة من أدواته كلّما حولها فنان عبقري آخر لفتح جديد من الإبداع.

ففي السرد تحديداً ظلّت لم تستقر جدلية الفلسفة حول الغاية منه، فحينما نشد الرواة اليوتوبيا وعالم المثل بدوا مع إندلاع الحرب العالمية الأولى كأناس مفرطي الإغتراب، وحيتما عادوا وصوروا الحياة بسوداوية مهزومة تحولوا لجوقة تابعة ذليلة، وحينما سعوا ليكونوا خدّام للمجتمع أستوعبتهم السلطات التوليتارية ضمن أجندة سياسية معيبة.
الفنتازيا في السرد أحياناً يتوجّب عليها  ألا تسعى للإخلال بفضاء السرد،  عليها ان تعلن عن نفسها وتغادر بأن تتحول لمستوى أقل من الفعل والتأثير أهون من إختباءها، فالسرد كما يقول ماريو فارغاس يوسا هو بذرة شخصية، فلايمكن فصل الشخصيات عن المؤلف تماماً، لكن السرد ماهو إلا خيال مخلص للشخصيات، هو إنعتاقها وإطلاق سراحها من أسر الفرضيات والتدخلات المسبقة من خارج الفضاء السردي.

كل فنان هو شخص تائه داخل نفسه لايرى الحياة إلا من شق ضئيل مايلبث أن يمكّنه من إستيعاب العالم الواسع بمجرد الإنصات الكامل للذات ، وثمة فنان آخر ينصرف تماماً للإنشغال بجزئيات أخرى ومن شقوق مختلفة، وهكذا تتعدد الملكات والرؤى بحيث يصعب إستيعابها من رؤية فنان واحد، فالغطاء النباتي للأرض عامل إتزان أساسي لإتزان الحياة، يتشكّل من فعل وشغف إنساني وجزء كبير  يأتِ كحياة طبيعية للنباتات والأشجار بعيداً عن طاقة الإنسان وقدرته، بمعنى أن الفنان ماهو إلا محب محدود يحاول أن يخلص للإنسان أكثر من غيره، والفن هو محاولة لتجسيد طريقته بإخلاص نسبي من فن يتراكم ويرتفع به لكنه لن يصل للحب الخالص، وتظل ممارسته غير معنيّة  بكل مايدور حوله من آراء بقدر إستغراقه وإنشغاله بكل ما يتحرك بأعماقه ومخيلته.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم