إبراهيم الحجري

ينطلق الحكي من ناصية الحكاية، عبر تجلية الشخصيات، وهم في وطن آخر. غير أن الرواية، وإن كانت تعود إلى فضاءات الانتماء الأول، عبر تقنية الاسترجاع، التي تسعف الشّخصيات في استنطاق ذاكرتهم، واستدعاء مواجعهم ومحنهم الخاصّة، فهي تجعل من الفضاء المستقبل (البلد الخليجي) فضاء ثالثا، لا هو بالفضاء الأصلي، ولا هو بالفضاء الحالي، بحكم أن الدولة المستقبلية لا تدمج المهاجرين إدماجا كليا، بل تجمعهم في أحياء هامشية فقيرة، وتسند إليهم خدمات وأعمال مهينة للكرامة، وتحيل أبناءهم إلى مؤسسات تعليمية خاصة بهم، وبالتالي فإمكانية المخالطة والتعايش غير متاحة، ولا يمكنهم، في أي حال من الأحوال، أن يكونوا مواطنين على كفة سواء مع أهل البلد. ولئن كان هذا الفضاء الثالث (فضاء المنفى) قد هيأ لهم إقامة آمنة، مما كانوا يعانونه في أوطانهم، غير أن تجربة التفقير والمعاناة وسوء الأحوال المعيشية جعلت شبح المخيمات والملاجئ تظل تخيم عليهم، يقول الراوي: «نحن الجوعى، نحن المعدمون، نحن البدون، نعم، البدون، بدون أوطان حقيقية، فأوطاننا تبرأت منا» .
وحتى في المنافي التي تستقبلهم، بحقوق ملتبسة، فهم يجدون أنفسهم منخرطين في أعمال لا تليق بآدميتهم: السرقة، جمع القمامة، خدمة البيوت، الدعارة، السخرة، الفقر، الدونية، والجهل، التوحش… يقول الراوي على لسان فارهو؛ واصفا حالة المهاجرين الأفارقة وغيرهم: «لقد تعبنا من الموت وسط القنابل والمراجم والدبابات والبنادق، تعبنا من الموت، ونحن نعاني من نقص في الغذاء، الموت من المرض، الموت من الحسرات في القلوب، ومن قهر الليالي المرعبة، الموت الذي كنا نبلعه كل لحظة، وأتخمت أرواحنا المهمشة منه بما يكفي، ويفيض».
كان فارحو، كما باقي الأطفال، يتبرمون من كلمة بدون، أو طارئ، أو أجنبي، أو وافد، معتبرا إياها خناجر يطعن كيانه، خاصة أنه يوجد في جغرافيا، اعتقد في قرارة نفسه، أنه ينتمي إليها، ويجمعه بها شيء كبير، ومتجذر، يقول الراوي على لسان فارهو: «كنت أستسيغ كلمة وافد، فنحن وافدون حقا على هذا البلد، ولسنا من سكانه الأصليين، من مواطنيه، من أهل بلده؛ لكن كلمة أجنبي، كانت ثقيلة على روحي.. لقد ضايقتني هذه الكلمة، وأصبحت أسأل كل من حولي، بل صرت أؤكد لهم بأنني لست أجنبيا، أنا لست أمريكيا أو فرنسيا أو إيطاليا، أنا عربي، ودمي عربي، وأتحدث اللغة العربية، فكيف يمكن أن أكون أجنبيا إذن؟».
ولم تفوت الرواية أي فرصة لتقليب قضية الهوية لدى أطفال المنافي على أوجهها، ساعية إلى الاقتراب من حدود التماسات الحقيقة، التي تطرأ بين ثقافات ذات مرجعيات مختلفة، وجغرافيات متباعدة، ولعل أهم العناصر التي حصرتها في هذا الإطار:
– إشكالية المعتقد: تفاعلت في فضاء الرواية وعوالمها، معتقدات مختلفة على مستوى الأديان المختلفة (المسيحية، الإسلام، اللادينية)، وكذا على مستوى الدين الواحد، خاصة في الديانة الإسلامية، إذ نجد المعتدلين والغلاة، والمتشددين، والمتطرفين، والمنافقين، غير أن الشخصيات، كانت مطالبة بتغيير معتقدها في كل مرة، وتطويعه، حسب طبيعة معتقد المشغل، وفهمه للمسألة الدينية، كما أن الفضاء المستقبل يفرض هويته العقدية بالزجّ، على من يستقبلهم، ويشترط الخضوع لطقوس عبور مطهرة، تؤمّن اندماجه السلس ضمن المجموعة الجديدة، حتى لو كان ذلك بأسلوب مسرحيّ، يقول السارد على لسان «منغستو» مخاطبا ابن اخته: «إسمع يا فارح، لأهل البلاد قواعد غريبة في تصنيف الغرباء، يشمل ذلك كثيرا من الأمور المتعلقة بنا، بدءا بالاسم الكافر، فهو يعني أنك شخص خطير وقذر، وجب تطهيرك مبدئيا، بتغيير اسمك، لتحمل اسما، يلائم ألسنتهم، وبيئتهم المحافظة، ثم سرعان ما يخضع بقيتك للتبديل، كالديانة والمظهر والكلام، عليك أن تدين بدين من تعمل لديهم حتى تصل لمرحلة الرضا التام من طويل العمر، وإن بدا ذلك ظاهريا، يتم تدجينك وفق شروطهم، وتغدو كائنا معجونا بطريقة، لم تألفها من قبل، حتى بالكاد تتعرف فيها على نفسك، ويحدث أن تنسى اسمك الذي يطلقونه عليك لأسابيع، لكن مع مرور الشهور، يغدو اسمك الحقيقي غريبا عنك، ثم يصبح نسيا منسيا».

على مستوى التخطيب، وظفت الرواية عددا كبيرا من التقنيات السردية، واجتهدت لتجعل من هذه الأدوات إسمنتا يلم شتات المحكيات، ويلحم مزقها المتعددة.

– إشكالية اللغة: تتفاعل في جغرافيا الفضاء الثالث هجنة من اللغات، وتقترب من بعضها، لتكتشف هذا الاختلاف المتباعد بين ألسنة أطفال جمعتهم المصائر، من بيئات لغوية متعددة: باكستان، أفغانستان، البنغال، مصر، الهند، الصومال، إثيوبيا، الخليج، سوريا، غير أن الحاجة الملحاحة للتواصل، أدت بهم إلى الاجتهاد للوصول إلى قلوب بعضهم، بدءا بالإشارة والإيماءة، وانتهاء بتعلم اللغة العربية، أو بالأحرى لهجة البلد المستضيف، غير أن طبيعة تفاعل تلك الألسنة الملتوية الحروف، كانت تثير، في بداياتها، كثيرا من ردود الأفعال المتهكمة، وما يتلوها من مشاحنات، وتنافر، وإحساس بالدونية، يقول الراوي: «طفق الأفغانيون ينطقونها «تولسوي»، أما الشلة البلوشية من حاملي جواز جزر القمر، وقد عرفوا بميلهم للمزاح، وتسابقهم للجلوس آخر الفصل، فكانوا ينطقون حروف اسم الكاتب الروسي بطريقة تثير فيهم عاصفة من الضحك الهستيري؛ حتى إن دموعهم كانت تسيل من الضحك، وآخرون يمسكون بطونهم كلما مرروا بينهم لفظة «تووس». طردهم الأستاذ عطية حسني من الفصل، بسبب ذلك، ولم نكن نحن، بقية التلاميذ العرب، نعي سر هرجهم من تلك اللفظة (سيوضح لهم رفيق لهم من تلك الشلة، بكون «تووس» تعني ضراط».
– إشكالية اللون: حيث يتم تمييز الناس حسب ألوانهم، حتى أن الشخصيات ذات البشرة السمراء، يعتبرون لونهم لعنة حطت عليهم، ولن تفارقهم أبدا، حيثما ولوا وجوههم. ويتعلق الأمر بمنغستو، وفارهو، وعائشة، وليلما الصومالية، وكل من يحمل هذه البشرة حتى لو كان من أبناء البلد. وعلى الرغم من ذلك، فقد ألف عنصر الفقدان بين قلوب الشخوص، مثلما جمعت بينهم هامشية الفضاء الثالث الذي ينتمون إليه، بصفتهم طارئين على البلد الخليجي، ووحّدهم المصير المشترك، والمعاناة المتشابهة.
على مستوى التخطيب، وظفت الرواية عددا كبيرا من التقنيات السردية، واجتهدت لتجعل من هذه الأدوات إسمنتا يلم شتات المحكيات، ويلحم مزقها المتعددة. وهي في الوقت نفسه التي تمثل وقفة استراحة للباث والمتلقي معا، ترتقي بالتجارب الإنسانية المعروضة، لتكون تجربة القارئ أيضا، عن طريق إشراكه في بناء المواقف، والعوالم، وتمثل الحبكات، والتفاعل معها إيجابا وسلبا، بدون الشعور بالملل، وبدون الإحساس بالتكلف أو التصنع في أي مفصل من مفاصل المحكيّ، وقد سار هذا الاجتهاد، على مستوى الشكل، جنبا إلى جنب، مع الاشتغال بالمضمون، وأسئلته، وقضاياه المتشابكة، كاشفا عن درجة الوعي بتشكل الخطاب عند الروائية، ومستوى ذكائها في اختيار أساليب الصوغ، والقوالب التي صبت فيها سيولتها السردية، بدون أن نلمس أي خلل على مستوى التناسب الخطابيّ، أو اتّساق المادة السردية، أو غلبة جانب على جانب داخل النسيج السردي العام، على الرغم من كون هذا العمل الروائي، هو الأول من نوعه بالنسبة للكاتبة ليلى عبد الله، وعلى الرغم من كثرة الآليات الفنية التي استعملتها لتجويد بنية التمظهر السردي، الشيء الذي يكرس انطباعا راسخا لدى المتلقي عن نضج التجربة، وميلادها شبه مكتملة على مستوى إدراك التوازن الشكلي والمضموني. ومن الملاحظات الشكلية التي نرصدها عبر النص الروائي:
– استئناسها بحيلة أولية، تبرر جدوى السرد، وغائيته، وهي كون النص، في الأساس، بوح أو اعتراف، أو تقرير من شخصية فارهو، وهو في سن الثالثة والأربعين من عمره، سلمه إلى شخصية ورقية غير مسهمة في أحداث النص، اسمها كارل، الحقوقي السينمائي الذي زار فارهو في السجن، فسلمه دفاتره ومذكراته، وعقب اطلاعه عليها، أبدى رغبته في تحويل هذه المادة إلى شريط وثائقي، وهي تقنية خارجة عن النص، لا تؤثر في مجرى الحكاية الأصلية، لكنها في الآن ذاته، توصل الخطاب بنوعه، وبإمكانياته التحويلية الممكنة، وبالأخص الدعوة إلى تجسير الرواية بالسينما، والسعي إلى الاستفادة منها في الارتقاء بالسينما العربية من جهة، والعمل على إقحام القارئ في تشييد العوالم، وبناء افتراضاته، وتشغيل ذكائه من جهة ثانية، والخروج عن السرد الكرونولوجي، والنّمط البنائي النمطي اللذين يقدمّان النص في تسلسله الأصلي، بدون اجتهادات شكلية من جهة ثالثة.
– الاستئناس بتقنية تأطير النص، حيث جسّرت للمحكي إطارين: الإطار الأكبر، وهو علاقة الباث بالمتلقي الضمني المسمى كارل، من خلال الدفاتر التي سيقدمها له للعمل عليها، بوصفه مخرجا سينمائيا، لتحويل سيرته الدرامية إلى شريط. وضمن هذا الإطار الأكبر، تسكن حكاية فارهو؛ كما سجلها في مذكراته، إبان رحلة العذاب التي اختطها له مصيره السردي.
– توظيفها لتقنية تعدد الأصوات المؤشر عليها نصيا، بالتفاوت على مستوى نوع الخطوط وشكل البنط، فداخل العالم الروائي نصادف صوت راوي الرواة، الذي لا يشارك في الأحداث، ولكنه يصل بين الفصول والأبواب، ويعلق بضمير الغائب على ما يجري، ثم نلفي أصوات الشخصيات الرئيسة التي تتناوب على حكي قصصها دفعة واحدة، أو بشكل متقطع، وأخص بالذكر: صوت الراوي الشخصية فارهو أو فارح، وصوت منغستو، أو منصور، وصوت عبد الصمد، وصوت عائشة، وصوت، وصوت الأم ليلما. يتناوب هؤلاء على الحكي في مفاصل معينة من العالم الروائي، فلا يحس المتلقي بأي انقلاب على مستوى لذة النص، أو اتساقه، بل على العكس من ذلك، يرهن المحكي، ويورط القارئ أكثر في لعبة السرد، جاعلا منه شبه متلق ضمني. ويدل هذا الانتقال على مستوى السرد من شخصية إلى أخرى، على تشقق كيان الشخوص، وتزعزع هوياتهم، وتمزق دواخلهم، جراء عنف الواقع، وقهر التجربة، وانكسار أرواحهم، خاصة في مرحلة حساسة من أعمارهم، وهي الطفولة التي يرجح أغلب علماء النفس أن شخصية الرجل تتشكل إبانها.
– استنادها إلى تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك، على امتداد المادة السردية، بحكم أن أغلب الأحداث والوقائع المسرودة والمعروضة، إنما كان مصدرها ذاكرة الشخوص، متجسدة في ما دوّنه فارهو في دفاتره البائسة. الشيء الذي يجعل من بوصلة السرد تطلق اتجاهاتها من زمن آني، لتغوص في زمن ماضوي يحيل على الحاضر والمستقبل، بحكم أن حكاية فارهو، ومن خالطه من أطفال الحروب والمنافي ما تزال تتكرر بأشكال مختلفة، ولعلها ستنعاد في ما يستقبل من زمن.
– إدراج التفكير في الصوغ، وأسلوب الكتابة ضمن المحكي؛ باعتباره محكيا ميتاروائيا موازيا، يجعل المادة السردية عرضة للتفقد، والنقد، والتفكير من قبل مختلف الرواة، وبالأخص من لدن الراوي الشخصية «فارهو» الذي يقدمه النص على أنه هو الكاتب الفعلي للنسخة الأولية، وهو طبعا شخصية اتخذت منها الكاتبة قناعا لمجابهة تحديات تشييد عوالم الحكاية.
– خلخلة بنية المحكي الروائي، حيث يحتاج المتن من قارئه جهدا كي يعيد ترتيبه وفق نسق يمنحه معنى، وهي تقنية من تقنيات السرد الحداثي الذي لا يقدم الحكاية، حكاية النص، على طبق جاهز، وفق سيرورة منتظمة، وهنا تعمد الرواية إلى البدء بمقطع سردي يفترض فيه أن يكون في المراحل النهائية، حيث يظهر الراوي- الشخصية (فارهو)، وهو في بلد المهجر، ينفذ خطة خاله، والعصابة التي ورطته في حبالها، بدون أن يكون عارفا بما تفعله بضحاياها، بعد أن يقوم هو باستدراجهم، وفق خطة محكمة، أو انتباها لمصيره، وهو يجسّد أدوارا خطيرة في مسلسل إجرامي متقن لن يخرج منه ناجيا.
لا يسعني إلا أن أقول في ختام هذه الورقة، إن الكتابة السردية، في هذا النص، نجحت في الانتصار، تبعا لما يحظى به المنجز على مستويي الخطاب والمادة الحكائية، للرواية الأطروحية التي تتبنى قضية ما، مع سبق الإصرار والترصد، وتهيّئ المادة المتنية اللّازمة لذلك، ثم ترتّب عوالمها المتخيلة، في انسجام مع الشكل الذي يستوعب تلك المادة ويناسبها، وبما أن ذهنيات الشخصيات، ونفسياتهم لم تكن على ما يرام، فقد اختارت الروائية قالبا مشابها، جعل المادة تقدم ممزقة ومبعثرة في ارتباط مع المحمولات النفسية للعوامل السردية، استئناسا بمفهوم الانشطار في الرواية.

عن صحيفة القدس العربي

٭ ناقد وروائي من المغرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم