مسعودة لعريط

تعالج رواية «قوارير» للكاتبة الجزائرية ربيعة جلطي الكثير من الموضوعات والقضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والوجودية، المتعلقة بالمسألة النسائية، انطلاقا من وضع المرأة كمفهوم وتمثل وواقع معيش، يظهر من خلال العلاقة بالشبيه المختلف (الرجل) ضمن رؤية أنثوية صوفية، تحتفي بالأمومة كمنطلق للتحرر، حيث لم يحصر الإنجاب بطلة الرواية في العمل المنزلي، ولم يمنعها من المساهمة في التغيير، بل عكس ذلك تماما، نجد أن الأمومة دافعا قويا للاجتهاد والصرامة.
كما تقترح هذه الرواية أن يكون الحب منقذا لكوكب البشر، نساء ورجالا وخلاصا لمأساة نسج خيوطها التاريخ المزيف، الذي كتبه الرجل وشاركت في تكريسه المرأة.
تنسج خيوط الرواية حول حكاية امرأة مثقفة، ذات مستوى تعليمي عال، تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الميسورة الحال، في مجتمع ذكوري تنتفي فيه الحقوق الأساسية للمرأة، هي»اصفية الصابرة» التي أحبت رجلا هجرها وسافر مع أخرى، يوم وضعت مولودتها منه، فتنهار وتخسر عملها، لكنها تنهض وتتخلص من وصاية الأب والأهل، وتستقل بحياتها في شقة صغيرة، وتتمكن من تنشئة طفلتها «ليناز» بطريقتها الخاصة، بل أكثر من ذلك تنخرط في تجربة من نوع خاص تمكنها من توحيد النساء، وتأنيث شوارع مدينة، فتصبح تحمل أسماء نساء ساهمنَ في صنع التاريخ، في حقول ومجالات متعددة: (شارع آسيا جبار، شارع بقار حدة، شارع الريميتي، شارع زبيدة حقاني، شارع رينيت لورنيز، شارع الكاهنة شارع تنهنان) ما يجعلنا نتحسس تحكم عنصر الفضاء المكاني بنسيج الرواية وبنيتها، إذ ينهض بوظائف متشابكة سردية ودلالية ومرجعية.
تقترن فكرة تأنيث المكان، في نص «قوارير» بنظرة صوفية تجسدها المقولة الشهيرة لابن عربي «كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه»، ومن ثم جاء وسم شوارع المدينة بأسماء مؤنثة، رفضا للامتثالية والخضوع لهيمنة الذكورة على الفضاء العمومي، وعنفها في مجتمع يلغي كيان المرأة ووجودها، بحكم التأويلات الدينية المغلوطة والأعراف المجحفة. ولعله أيضا محاولة لإعادة الأمور إلى بدايتها وأصلها، حسب الفكرة التي اقتبستها سيمون دي بوفوار من أنجلز، الذي نقلها بدوره عن هيروديت، التي تقول بأن المجتمعات كانت في البدء كيانات غلبت عليها الأمومة، وكما جاء في كتاب «الأنثى هي الأصل» لنوال السعداوي.
إن اختيار اسم «جميلة بوحيرد» وإطلاقه على شارع قمبيطة، يبرز أهمية الدور الذي لعبته المرأة الجزائرية في تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسي، باعتبارها أيقونة الثورة التحريرية الجزائرية، والتاريخ الجزائري يحفل بالنساء الثوريات المناضلات، لكن المفارقة الكبرى هي أن النضال الوطني أفضى بعد الاستقلال إلى وضع المرأة الجزائرية في الهامش الاجتماعي والسياسي، رغم سياسة التعليم المجاني والإجباري للجنسين. يجدر بنا أن نشير في هذا السياق إلى أن سيمون دي بوفوار أكدت في الستينيات من القرن الماضي، على أن مسألة المرأة لا تحل ضمن مسائل التحرر الشاملة، وأن تغير الأوضاع السياسية والاجتماعية، لا يعني بالضرورة تغير وضع المرأة إلى الأفضل، وبالتالي على النساء التجند حول قضيتهن.

تؤكد هذه النهاية رمزية الذكورة المدمرة المرادفة للتسلط والحرب، وتبقى بذلك مسيرة النساء ونضالهن من أجل تحقيق العدل والمساواة والمحبة على كوكب الأرض قيد الحلم والإنجاز لا التحقق.

نشتم من «اصفية» الشخصية الرئيسة لرواية «قوارير»، رائحة النسويات الرائدات أمثال كاميل باجيلا أستاذة العلوم الإنسانية في جامعة الفنون في فيلادلفيا، التي انتقدت الموجة الثانية من الحركة النسائية بوصفها «حركة تأخذ دور الضحية»، وهي شخصية اشتهرت بنظرياتها الجدالية في الاغتصاب، الذي يحدث أثناء المواعيد الغرامية، قائلة بأن النساء يجب أن يتحملن المسؤولية في تجنب مثل هذه المواقف، حيث تتحمل «اصفية» المسؤولية كاملة على عاتقها، وتدرك أن قضيتها ليست فقط قضية النساء، إنما هي قضية كل البشر. ومن ثم تنخرط في قلعة «الكاملة بنت الصفا» كمدونة لكتاب «صحائف النساء»، لتتمكن من تحقيق شروط التحرر المتمثلة في الاستقلال المادي، وتحمل مسؤولية الوجود، الأمر الذي لا يتأتي إلا بتحرير الأنا والآخر.
تتكرر شخصية اصفية من خلال «ليناز»، التي التحقت أيضا بالقلعة، مواصلة طريق الاستقلالية والتحرر في عالم القلعة الصوفي، الذي يعج بالنساء من نوع خاص، وسيدته الأولى»الكاملة بنت الصفا»، بينما تشرف عليه «حلاجة»، ميدانيا، وتسيره بدقة واجتهاد وتفان، إلى أن يكتمل الكتاب الذي يريد إعادة صياغة العالم، وترتقي «ليناز» درجات التكشف والإشراق، لتعانق الحب في لحظات من الجلاء الصوفي.
ينتشر خبر الكتاب، ويقام عليه الحظر، وتفتش بيوت النساء المشبوهات بالمساهمة فيه، وبذلك تعتقل «اصفية» كبطلة تحت زغاريد نساء حي «جميلة بوحيرد»، وتنبري الماتر «فطوم» للدفاع عنها، ويفرج عنها في الأخير في مشهد يناقض مقولة تشتت النساء ويجسد التضامن بينهن في العمل. تجدر الإشارة إلى أن عملية التغيير والتحرر ارتبطت في هذا النص بالكتابة كمهنة ظلت إلى أمد طويل حكرا على الرجال، ومن ثم كانت معركة النساء الأولى والأهم على الإطلاق. إن الكتابة باعتبارها فعل تحرر، تمثل خطرا كبيرا بالنسبة للسلطة القائمة على الاستبداد، ولطالما تعرض الكتاب الثائرون إلى العقاب والسجن والقتل والحرق، مثلما تعرضت كتابة المرأة عبر التاريخ للطمس والمنع والإجحاف، نظرا لما ينتج عنها من إخلال بالقواعد الاجتماعية الذكورية، التي تنمط المرأة في أدوار معينة وتحيطها بمجموعة من المشروطيات المجحفة والخاطئة، التي يعارضها النص باشتغاله على شخصيات مؤنثة، تقدم نماذج مختلفة للتحدي والنجاح، كالخنساء التي لم يصلنا من شعرها إلا مرثيتها الخالدة لأخيها صخر، وهي بذلك استحقت الإهداء والتموقع في الصفحة الأولى لهذا المتن الروائي: «إلى بنت أبي… أختي الخنساء» ولعل ذلك إقرار واضح من الكاتبة بالانتماء إلى الثقافة العربية من جهة وتأكيد، من جهة أخرى، على الإجحاف الممارس في حق النساء العربيات الأديبات، في ظل النظام الأبوي الممتد منذ عصر الخنساء إلى عصر ربيعة جلطي.
يتأخر ظهور كتاب «صحائف النساء» الذي كان من الأجدر أن يرى النور قبل اندلاع الحرب، وتتعثر مسيرة النساء وتفشلن في إحداث التغيير. إن تأخر فعل الكتابة والتدوين عند المرأة العربية، واقع مؤكد نتج عنه تأخر الوضع العام لها، ما يجعلها اليوم تبدو أشبه ما يكون في سباق مع الزمن، وكتابتها لا تكاد تنفلت من النظام الرمزي القائم، طالما أن الرجل هو المعلم والقدوة والنموذج. لم ينجُ كتاب «نساء القلعة» من فخ اللغة، كإطار جاهز فجاء بصيغة متلبسة بصوت الرجل: «صحائف النساء» بينما كان بالإمكان أن يحدث الفرق، لو أنه وسم بعنوان «صحائفنا نحن النساء»، فالرجال كما تقول سيمون دي بوفوار في كتابها «الجنس الآخر»، يقولون: «النساء» والنساء يتخذن الكلمة نفسها للإشارة إلى أنفسهن. إنهن لا يتخذن موقفا فاعلا أصيلا. بالإضافة إلى النسائية الانتقائية الموجهة بعناية توظف رواية «قوارير» مقولات صوفية لمحيي الدين بن عربي» طوبى لمن حار»، وجلال الدين الرومي: «ومن المحبة تصبح كل الآلام شافية»، والصوفي عبد الرحمن المجذوب، والحلاج: « ما تحت الجبة الا الله»، لتشكل رؤية صوفية متكاملة ومجسدة في فضاء القلعة ورموزها الصوفية المختلفة. كما أنها تمنح هامشا للاحتفاء بنوع من الرجال من صنف»ابن رشد» القرطبي الأندلسي، الذي ربط «انهيار الحضارة في عصره بفعل إبعاد المرأة عن الشأن العام»، رغم فشل محاولة مصطفي حماية مدينة حبيبته، التي صارت رمادا، ولم يبق فيها سوى آدم، ذلك الرجل المتمرغ في الرماد، وهو يصرخ بهستيريا أمام تدفق سائل أسود (بين ساقيه) ملقيا بما تبقى من حطام وشذرات كتاب «صحائف النساء» داخل ذلك السائل الأسود، معلنا ثراءه وجبروته وسطوته على المكان، ما يحيل إلى لعنتي البترول والذكورة اللتين دمرتا المجتمع الجزائري.
تؤكد هذه النهاية رمزية الذكورة المدمرة المرادفة للتسلط والحرب، وتبقى بذلك مسيرة النساء ونضالهن من أجل تحقيق العدل والمساواة والمحبة على كوكب الأرض قيد الحلم والإنجاز لا التحقق.

٭ أكاديمية جزائرية

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم