سعاد العنزي

تبرز الجدلية الأساسية لكتاب هارولد بلووم «قلق التأثر» الصادر عام 1973 إثبات أن هناك جيلا من الشعراء الذين يقعون في فخ التأثر بالأجيال الإبداعية السابقة، مثل تأثر الشعراء الإنكليز في القرن التاسع عشر بشكسبير. يتعقب بلووم أثر الصراع من أجل الهوية عند كل جيل من الشعراء، تحت تهديد العظماء من سابقيهم، بوصفها قانونا لعقدة أوديب الفرويدية. بتتبع أطروحة بلوم نجد أنها تنطبق على الأجيال الإبداعية الشبابية وعلاقتها بالأجيال السابقة.
يظهر في كل ثقافة جيل من المبدعين، الذين رسخوا أسماءهم بوصفهم مبدعين أصيلين لهم الصدارة في المشهد الإبداعي، ويظهر في المقابل كتّاب يتقفون أثر خطى أولئك المبدعين من الرواد السابقين لهم بتقليد وتبعية. تتضح ظاهرة التقليد والتبعية في قراءة إنتاج الأجيال اللاحقة، التي تعاني من قضية التبعية والتقليد والمحاكاة للأجيال السابقة من الأدباء، في إنتاج الأشكال الكتابية نفسها وتوزيع المضامين نفسها.
وخير مثال على هذه الظاهرة، ظاهرة التقليد الواضحة عند جيل الشباب من المبدعين، مثل رواية «زاجل» للكاتب الكويتي الشاب خالد النصر الله. وهي الرواية التي أفردت لها قراءة مستقلة في مقال نشرته في مدونتي. تنتمي رواية «زاجل» للكاتب الشاب الكويتي خالد النصر الله، لذلك القسم المهيمن الآن على الأدب الكويتي، الذي يركز على أدب المهمشين والمعزولين عن المجتمع كالبدون، والوافدين، وأبناء الكويتيين من جنسيات ثانية عربية وغير عربية، كما شاهدنا في العامين الأخيرين بروز هذا التيار في الأعمال الروائية التالية: «في حضرة العنقاء والخل الوفي» للروائي إسماعيل فهد إسماعيل، الراصدة لحياة بطلها البدون المنسي ابن أبيه، مثلما نجد رواية «سلالم النهار» لفوزية السالم، تتبنى صورة كل من البدون، والكويتيين المحطمة والمتداعية في بركان الفقر الأخلاقي والمادي، ورواية سعود السنعوسي «ساق البامبو» وموضوعها الرئيسي الكويتي الهجين من أم فلبينية. وتعرض رواية «زاجل» للنصر الله صورة مصري فقد أباه وتبناه عمه الكويتي، الذي بقي مجهول الاسم طوال الرواية. إذن نحن لا نتحدث عن رواية هي الأولى من نوعها، بل هي رواية تنطلق من توجه روائي سائد الآن في الروايــــة الكويتية.
إن كانت روايات مثل «زاجل» و«فئران أمي حصة» و«ناقة صالحة» قامت بمحاكاة وتقليد أعمال روائية محلية، نجد هناك نوعا من التقليد للأدب العالمي. يأتي التقليد العالمي من خلال تجربة الروائية بثينة العيسى في روايتها الأخيرة «حارس سطح العالم». من يقرأ الرواية يعجب حقيقة باللغة الجريئة والصادمة لأفق التلقي، وبجرأة الطرح الفكري في الرواية. تتقاطع الرواية بشكل كبير مع أزمة الرقابة والأنظمة الشمولية، التي طرحها جورج أورويل في عدد من أعماله، وهذا الأمر نجد أنفسنا بمواجهة معه بشكل مستمر، يبين جلال أمين في كتابه عن جورج أوريل، «جورج أوريل أهمية روايته «1984» التي تعالج أزمة متجددة في الفكر الإنساني، تواجهها كل المجتمعات الإنسانية من دون استثناء: فهم القراء رواية «1984» على أكثر من وجه. قرأها كثيرون على أنها نقد للنظام السوفييتي، أو الاشتراكي أو الشمولي، كما كان يراه أورويل وقت إتمامه للرواية «1948»، وهو الوقت الذي بدأت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي. لكن كثيرين من قراء الرواية، وأنا منهم، يرون فيها، في الأساس، تصويرا ورفضا لما يتعرض له الفرد من قهر العصر التكنولوجي الحديث.

يظهر في كل ثقافة جيل من المبدعين، الذين رسخوا أسماءهم بوصفهم مبدعين أصيلين لهم الصدارة في المشهد الإبداعي، ويظهر في المقابل كتّاب يتقفون أثر خطى أولئك المبدعين من الرواد السابقين لهم بتقليد وتبعية.

تستفز الرواية القارئ منذ بدايات العنوان «حارس سطح العالم»، الذي لا يذهب خطوة أعمق ولا يسمح للآخرين بالذهاب أبعد منه، ويصاب بكارثة عندما تبدو على ابنته مظاهر الاختلاف والذهاب إلى العمق، تصبح إنسانة حقيقة، تصاب بفيروسات المشاعر وشغف المعرفة. تحاول الرواية أن تواجه أي نوع من السلطة الرقابية، فهي تعري أشكال الرقابة وتسخر منها أيضا. تحاول بثينة العيسى التي كتبت مرارا وتكرارا عن سلطة الرقيب، أن تثأر من هذا الرقيب بالكتابة عنه وتعريته والسخرية منه، فيصبح العمل الأدبي محاولة تنفيس والرد بالكتابة على ما يحدث من ممارسات رقابية، ترفضها الكاتبة بشدة، وهذا يبدو لحد الآن أمرا جيدا. لقد استعارت الكاتبة روايات عالمية خالدة في الذاكرة الأدبية وقامت بترجمتها ترجمة ثقافية رائعة، لتنقلها للقارئ العربي مثل روايات جورج أوريل «مزرعة الحيوان»، و رواية «1984» ، ورواية الكاتب الإسباني ألفونسو كروش «هيا نشتري شاعرا». ليس من الخطأ أن يتعالق نص أدبي مع نصوص سابقة بالعكس كل نص أدبي هو قطعة من نصوص أخرى، كما يؤكد رولان بارت، ولكن بالتأكيد كل نص أدبي يحاول الحفاظ على هويته ويقدم رؤيته الخاصة عن الوجود، لا أن يكون مجرد ظل شاحب لأعمال سابقة، لأن القراء لن يتذكروا اللاحق، إلا إذا أضاف إلى السابق، وقدّم إضافته الخاصة. ومن هنا: يحق لنا أن نسأل ماذا قدمت الرواية وماذا أضافت لقراء اليوم والبيئة المكانية والزمانية التي تنتمي إليها.
إذا كانت تريد أن تقدم هذه الأفكار إلى القارئ العربي، فإن القارئ اليوم مطلع بشكل جيد على ترجمات الأدب الغربي بشكل واسع على وجه الخصوص، لأن الأعمال التي أخذت أفكارها هي أعمال معروفة جدا لدى القارئ العربي، وقد اطلع عليها بشكل واسع. أما إذا كانت تريد أن تقدم نصا للقارئ العالمي أو حتى الغربي: فإن المتلقي الغربي سيقول هذه بضاعتنا ردت إلينا. لا أحد يريد أن يفهم ما لديه بعين الآخر إلا إذا كان شيئا جديدا على رؤيته، ويقدم تصورا للأمور بطريقة مختلفة. ولكن القيام بتوليفة تجمع كل هذه النصوص ولا تضيف شيئا عليها من روح ثقافتك ومجتمعك، فإن هذا لن يضيف ولن يبهر أحدا، بالعكس سيضع النص في دائرة التقليد والتبعية. تملك رواية «حارس سطح العالم» إمكانية أن تكون أكثر إضافة لو تحدثت عن الرقابة في المجتمعات العربية، وركزت على أشكال متعددة للرقابة: الرقابة وعلاقتها بمنع الكتب، والرقابة الاجتماعية، والرقابة الدينية، والسياسية، والرقابة الثقافية: أي مراقبة المثقفين لبعضهم بعضا وممارساتهم المضمرة في قمع الأصوات المخالفة والمتفردة أيضا، لكانت الرواية خرجت بإضافة ورؤية إنسانية مهمة استفادت من الطروحات الفكرية المهمة للروائيين الكبار، الذين استعارت رؤاهم الأصيلة كل في مجاله ومنطقته الإبداعية.
بذلك نجد أن فكرة التناص في الرواية قد قوضت على حد قول نادر كاظم: «الوجود المتفرد للعمل وفكرة العبقرية الخلاقة التي تبدع العمل من بنات أفكارها ومشاعرها، وفكرة العبقرية الخلاقة التي تبدع العمل من بنات أفكارها ومشاعرها، وفكرة الوحدة العضوية التي ينطوي عليها العمل الأدبي». في رأيي توظيف الأفكار المجردة التي لم تمل الكاتبة من تكرارها بسياقات اجتماعية ودينية وإعطائها صبغة محلية كان سيضيف كثيرا للنص. ولكن يبدو أن النص هذا يريد أن يقول ولا يقول، ينفس عن غضبه من الرقيب، ولا يعطي تفاصيل أخرى، ربما كان ذلك نتيجة الخوف أو عدم الرغبة في مواجهة صريحة مع الرقيب للحفاظ على خط رجعة مع هذه المؤسسة التي لا غنى عنها.
لقد حاولت العيسى في روايتها «حارس سطح العالم» أن تنتقد من هو ضد المكتبة حسب عنوان خليل صويلح اللافت في كتابه «ضد المكتبة»، وتتساءل معه عن مصير الكتب التي لم تر النور كما يقول: «ولكن ماذا بخصوص الكتب التي لم تر النور. الكتب الممنوعة المخطوطات حبيسة الأدراج، الأرشيفات السرية، العبارات المشطوبة بقلم الرقيب الوقح؟ «كورتاج» قسري ضد الأبناء اللاشرعيين للغة المارقة. مقبرة نعبرها من دون أن نعرف أسماء موتاها».

٭ كاتبة من الكويت

عن صحيفة القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم