ماجد الخطيب

وأنا أقرأ رواية"منشدو كولونيا" للقاص والروائي صلاح عبد اللطيف تذكرت"تافوگت". إذ أصدر صلاح عددين من مجلته الأدبية "تافوكت" في نهاية تسعينيات القرن الماضي قبل أن يجري"اغتيال"، بحسب تعبيره، العدد الثالث منها ومن ثم توقف صدورها.

كانت تافوكت مغامرة أدبية جميلة يتذكر من نشر فيها منحاها الأدبي الجاد في وقت أفلت فيها "شموس" الثقافة الرصينة في سديم من السياسة والعبث والضياع. و"تافوكت" تعني الشمس باللغة الأمازيغية، وتعمد صلاح اختيار هذا العنوان العجيب لمجلته تذكيراً بلغة وثقافة شعب حيوي له مکانته فی الأدب المغربي الحديث.

وتبدو الشخصيات الرئيسية في رواية "منشدو كولونيا" مثل "تافوكت" خامدة تبحث لها عبثاً عن مدارات في قبة الاغتراب المرصعة بـ"النجوم الآدمية"(عنوان رواية سابقة لصلاح عبد اللطيف). ألقت بهم ظروف الحرب والقمع بين رحى المنفى في مدينة الدوم "كولون" الألمانية الشهيرة التي يعيش فيها صلاح منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين. ومعروف أن كولون هو الاسم الفرنسي لهذه المدينة الرومانية القديمة التي أراد لها الرومان أن تصبح مستعمرة "كولونيا" لهم في حوض الراين.

يفقد بعض المنفيين في مدينة كولونيا، مدينة العطور، روائحهم مثل البطل السلبي في رواية العطر للألماني باتريك زوزكند. ماذا يبقى من الإنسان حينما يعود بلا رائحة؟ يغرق البعض الآخر في سفالته وجشعه وترتفع رائحته النتنة على رائحة"ماء الكولونيا" التي تعبق بها عاصمة كرنفال الراين.

عمل حسين البحر لفترة منشداً في فرقة الإنشاد العراقية ببغداد، ونراه ينشد مع كل من الشخصيات العراقية في كولونيا حياته الماضية، وحياته الحالية ومصيره مثل أية أغنية عراقية حزينة. يروون، مرة على ألسنتهم، ومرة على لسان الكاتب، كيف ينخر المنفى فيهم، وكيف تختلف مصائرهم بين التطلع مشدوهين في مجرى نهر الراين السريع في المدينة، وبين النزول على عمق مترين تحت ترابها.

درس طالب المالكي في البصرة قبل أن يقوده مصيره إلى ألمانيا في بعثة دراسية في بداية سبعينيات القرن العشرين. يضطر إلى مغادرة ألمانيا إلى ليبيا بوساطة ابن عمه(رجل الأعمال) المقيم في ليبيا. يستقر في ليبيا ويتزوج مصرية هي أخت زوجة ابن عمه. ترفض الزوجة منح دروس خاصة لقيادي في حركة "أبي نضال" في ليبيا فيقرر مقاصصتها. يلفق لها، بالتعاون مع  بعض ضباط الأمن الليبي، تهمة التجسس. ولا تنجح الزوجة في حل عقدة حبل المشنقة عن عنقها إلا بوساطة ونفوذ ابن العم. يهاجر المالكي إلى اميركا هرباً من ليبيا، ثم يعود ليلتقي بالآخرين في كولون.

وصل فاضل الأنباري إلى ألمانيا في ستينيات القرن العشرين ويضطر للزواج من الألمانية ساندرا كي يضمن اقامته في ألمانيا. يعجز الأنباري، القادم من عائلة فقيرة تسكن بغداد، عن الاندماج في المجتمع الغربي، يدمن الكحول، ينسى واجباته العائلية، ولايرى الحياة، بحسب تعبير زوجته، إلا "من خلال الزجاجة". تفشل ساندرا في البحث عن روح فاضل في الصندوق الأسود لحياته المحطمة(التعبير لصلاح) وتقرر الانفصال عنه.

يزور الأنباري العراق مع زوجته وابنه المراهق ياسين. يقع الابن ضحية المتطرفين الإسلاميين بعد عودته إلى كولون، ويتحول تحت أنظار أبيه القلقة، إلى إرهابي يلتحق بالمجاهدين في أفغانستان ويلاقي حتفه في عملية انتحارية.

بعد طلاقه من ساندرا يلتقي الأنباري عراقية بعمر ابنته وصلت ألمانيا بعد أن غرق زوجها في أوديسا التهريب بين جيكيا وهنغاريا وصولاً إلى ألمانيا. تقترح عليه "زواجاً صورياً" منها كي تبقى في ألمانيا، ويستعيد شيئاً من سعادته، ويخرج من دائرة إكتئابه وعزلته، بعد الزواج منها.

تدرس"ياسمين" في جامعة كولونيا على حساب عائلتها الثرية المقيمة في بغداد. تعجز العائلة عن مواصلة تمويل دراستها بعد ترحيل عائلتها"بملابسهم فقط" ضمن حملة تهجير غير حاملي شهادة الجنسية العراقية إلى إيران. ترفض والدتها زواجها من سليم"القصير" وتضطر للالتحاق بعائلتها في إيران والزواج من شخص لاتحبه اختارته أمه لها. يفشل زواجها وتنخرط في أكثر من علاقة جنسية مع إيرانيين آخرين وتتحطم حياتها.

ربما ان حسين البحر، القادم من النجف، هو أكثر شخصيات الرواية إثارة ومأساوية. رجل يدمن الميسر ويسعى بكل وسيلة وراء المال. يتزوج الألمانية ميلاني كي ينال الإقامة الدائمة في ألمانيا وينجح فعلاً في تحقيق ثروة من بيع وشراء السيارات المستعملة. صار بعدها العراقي حسين البحر يتبرع للمجهود الحربي الإيراني ويتقرب من حكومة الملالي في طهران إلى أن يصبح عميلاً لهم يعقد صفقات السلاح مع الشركات الغربية. يتسلل بعدها عبر السفارة العراقية ببون إلى المخابرات العراقية وينتهي عميلاً مزدوجاً للطرفين المتحاربين. تتركه زوجته بعد أنكشاف دوره لها، ويفقد حياته في عملية اغتيال تطاله في عالم التجسس والعصابات المنظمة والفساد الذي ولجه.

يبدو المثقف الليبرالي سليم القصير أكثر شخصيات الرواية استقراراً ورؤية وقدرة على التكيف مع المنفى رغم صدمة فقدان ياسمين. وصل القصير إلى كولون في نهاية السبعينات. عمل في القسم العربي في الإذاعة الألمانية، وكمترجم لصالح سلطات اللجوء واستقر نفسياً ومعنوياً يعض الشيء.

في نهاية الرواية يلتقي سليم القصير والأنباري والمالكي وزوجاتهم في مدينة كولون ويرفعون أنخاب"وجودههم" في ألمانيا بعد أن تعذر عليهم معرفة ما إذا كانوا يعيشون في المنفى أم أنهم يتواجدون فيه فحسب.

من الواضح لمن يعرف صلاح عبد اللطيف(القصير) ويعيش في كولونيا منذ عقود مثلي، أن"منشدو كولونيا" شخصيات حقيقية سبق لها أن عاشت في هذه المدينة واستنشقت عطورها. وربما يكمن هنا نجاح الكاتب في رسم هذه الشخصيات بسلاسة وواقعية كبيرة لا تخلو من شيء من الفنظازيا.

ويمكن القول أن صلاحاً بنى روايته بناء درامياً كلاسيكياً أقرب إلى الكتابة المسرحية، بمعنى أنه عرض الشخصيات وصراعاتها وتفعلاتها مع بعض، ثم اختتم العمل بكشف مصائر هذه الشخصيات. إلا انه، من خلال الحديث معي، فضل أن يقرّب بناءه الروائي إلى"سيناريو فيلم".

 لم يهتم الكاتب كثيراً بالخلفيات السياسية لشخصياته رغم الأجواء السياسية التي تحكمت بمصائر الشخصيات. وانصب اهتمامه على تسليط الضوء على دروب الحياة الشاقة في المنفى وكيف يشقها كل منفي على طريقته. فجاءت مصائر بعض الشخصيت مأساوية جداً، ومصائر شخصيات أخرى أقل مأساوية، لكنها بقت كلها مأساوية. ثم جاء سرد الأحداث بلغة أنيقة بعيدة عن الاستطراد في متاهات الكتابة، وهذا ما يحقق مقولة الألمان أنها كتابة"بالعظم" لم يكسها الكاتب بكثير من الشحم والترهل.

في أحد أجمل فصول الرواية حبكة ودراماتيكية وفنطازية، ينهض حسين البحر من قبره في مقبرة "ميلاتن" في كولونيا، ويبحث بين الموتى عن ظهير له يعينه في الانتقام من قتلته. ينجح في"تجنيد" المغربي فريد لمساعدته في السفر إلى لندن واختراق صدور من أغتاله بالرصاص. يعود بعدها إلى المقبرة: "فوق مقبرة ميلاتن حلقت آلاف الطيور المهاجرة إلى جنوب خط الاستواء، أنه الخريف الذي يسبق البرد الأوربي. ستقطع آلاف الكيلومترات بحثاً عن وطن جديد، كما فعل حسين البحر قبل ثلاثين عاماً. الأسراب الملونة مرت فوق المقبرة أكثر من مرة، أهو أمر مقصود، أهي تودعه وصحبه وتتمنى أن تراهم في مكان آخر، أم أن اللعبة قد انتهت".

كنت أقرأ "منشدو ألمانيا" في مقهى"لاسروا" في مراكش حينما انضم إلى كاتبان مراكشيان معروفان. توقع الأول أن تكون الرواية جيدة لأن الكاتب"معلم"، بحسب وصفه. لم يتذكر الثاني اسم صلاح عبد اللطيف، لكنه أمتدح" تافوكت" حينما عرف أن صلاحاً كان يصدرها، وعبر عن أسفه الكبير لتوقفها عن الصدور.

صلاح عبد اللطيف، كاتب وقاص ولد في بغداد سنة1950. صدر له العديد من الأعمال القصصية؛ يوميات الجنون1983، الطرطور وقصص أخرى1993،عجائب1996، ورواية"نجوم آدمية"2000. له العديد من المقالات النقدية التي صدرت في الحياة، القدس العربي، مجلة الناقد، نزوى، ابواب، كلمات البحرانية، كيكا للأدب العالمي، وصحف أخرى.

صدرت الرواية في طبعة أنيقة عن دار"الكتب خان" للنشر والتوزيع في مصر، وتقع في206 صفحات من القطع المتوسط. لوحة وتصميم الغلاف للفنان حاتم سليمان. أصدر في سنة1996 مجلة أدبية اسمها"تافوگت" وتعني الشمس باللغة الأمازيغية؟يعيش في ألمانيا منذ سنة1979.

عن جريدة الشرق الأوسط 25 مارس2020

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم