محمد فتيلينه

«الديوان الإسبرطي» لصاحبها عيساوي عبد الوهاب، رواية صادرة في الجزائر عن منشورات "ميم"، سنة 2019. تم اختيارها ضمن القائمة القصيرة للبوكر 2020، بعد أن اجتازت بثقة قائمتها الطويلة، مُنافسةً بذلك العديد من النصوص الروائية الهامة في العالم العربي.

     تعتبر «الديوان الإسبرطي» الأهم في مسيرة الشاب عيساوي لأسباب عديدة أهمها -في نظرنا- المدة الزمنية التي استغرقها الروائي في البحث والتنقيب والحفر في تاريخ الجزائر الحديث (إذ أشار صاحب الرواية في أكثر من مناسبة إلى اعتماده على أكثر من ستّين مرجعا ومقالا ودراسة في سبيل الإلمام بعوالم نصه وفضاءاته وزمنيته)، خصوصا الحقبة التي سبقت دخول الفرنسيين أرض "المحروسة" كما كانت تُسمى الجزائر قديما. أما السبب الذي من أجله لاقت الرواية الترحيب هو اعتمادها من حيث جانبها الفني على آلية التّعدد الصوتي، التي يعتبر رهانا فنيا، كما تمثل أحيانا عقبة أمام تحدّيات النص من حيث خطاباته الفلسفية المضمرة وثيماته الواقعية والتاريخية البارزة.

     نوّهت لجنة البوكر بالأبعاد والقيم التي يحملها النص، دون إغفال تماسكها اللغوي ومستواها الفني اللذين ساهما في بث الكثير من التشويق وحب المتابعة والاطلاع، عند شرائح كثيرة من القّراء من مختلف البلدان العربية (تم توزيع طبعات في كل من مصر والشام والعراق).

    من خلال العتبة الأولى التي تستقبل أي قارئ، يعلق في الذهن سريعا "الديوان الإسبرطي" ويطرح أكثر من سؤال عن علاقة إسبرطة التاريخية بأرض كانت ولا تزال تحسب على ديار الإسلام؟ يعلق في ذهن القارئ على الدوام ارتباط إسبرطة بالعسكر، بينما يجعلنا "الديوان" نستحضر دواوين القصور والبلاطات وعلاقة ذلك بالدسائس وبالسطوة ووالملك. المُتفحص للرواية يجد دون شك إحالات إلى الديوان وإلى إسبرطة معا، ويستوعب دور الشخصيات المرسومة بعناية كافية، تُسهل من وتيرتها النصية ودورها السردي. وتتّضح شيئا فشيئا مسالك الصراع الذي عرفته الجزائر قبيل احتلال فرنسا لها وبُعيدها، وتتضح الصورة بين رجال الحكم ورغبتهم في مواصلة السطوة والاستفادة من خيرات البلد، وإهمال ساكنة المحروسة وتجاوز أحلامهم ورغباتهم في ذلك الزمان. نفهم سريعا أن هذه القلاقل وهذا الصراع الداخلي بين رجال البلاط العثمانيين دفع فرنسا إلى استغلال الوضع (ومحاولة محو آثار حرب واترلو التي دمرت بشكل يكون كبيرا جيش نابليون الأسطوري)، والسطو على مقدّرات هذا القطر المغاربي الهام والغني بالثروات والمترامي المساحة.

من خلال نسج علاقات إنسانية صاحبت سقوط الحكم العثماني واحتلال الفرنسيين للجزائر، ترجم الروائي كل تلك الأبعاد عبر اختيار شخوص عاشت تلك السنوات وقد تعدّدت مشاربها واختلفت اهتماماتها، وهو ما دفع الروائي إلى جعلها صورة معبّرة عن مرحلة هامة من تاريخ الجزائر (من 1815إلى 1833)، ساهمت في تغيير الجزائر تغيرا جذريا في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لا شك، كان من أهم نتائجها بقاء فرنسا كمستعمر للمحروسة لأكثر من قرن وثلث من الزمن.

نقل «الديوان الإسبرطي» كل ذلك عبر أصوات سردية ، تمثّلت في (ديبون وكافيار الفرنسيان، والسلاوي وابن ميار ودوجة الجزائريين)، الرقم خمسة يُحيل إلى العديد من السيميائيات، على الأرجح أنها كانت إشارة مقصودة، لما يحمل هذا العدد من رمزية دينية وتراثية وحتى ميتافيزيقية (نستحضر هنا الروائي الفرنكفوني "كاتب ياسين" و"نجمة" الرواية التي اعتمد فيها صاحبها على تعدّد صوتي، برز من خلال أربعة شبان، غير أنه أهمل –داخل متنه السردي- الصوت الأبرز ألا وهو صوت الأنثى)، بينما لم يغفل الروائي في ديوانه "الإسبرطي" ، الصوت الإنساني الأبرز خصوصا في حقب الصراعات والحروب، هذا الصوت الذي يشكل في مجتمعاتنا الشرقية الحلقة الأضعف على الإطلاق.

تشكّل دوجة أكثر من شخصية ثانوية، إذ يتقاطع مصيرها مع الكثير من شخوص النص مثل ابن ميّار والسلاوي وحتى كافيار، التي تكتشف سريعا اختلاف حالها والمحروسة حينما تعترف بالقول: (اختلفت تلك الأيام عن الأيام الأولى لدخولي المحروسة، لم أرها مثلما رآها حمّة [السلاوي]، ولا كما إعتقدها ابن ميّار، كلما مضى منها يوم يُولِّد في نفسي مزيدا من الكراهية لأهلها. ص:159). "دوجة" تتمايل بجسها المغري والمتعب داخل المحروسة، لكنها عبثا تنشد الدّعة والهدوء وسط مدينة أمست سريعا مكمنا للضوضاء وشرارة للحرب ومرتعا للباحثين عن المتعة من التُرك وشركائهم في القصر. كأنها تفقد مثلها مثل المحروسة كل شيء، بعد الأم والأخ يضيع الوالد في زحام المدينة وسوط وكيل القنصل القاسي، لم يبق لها سوى الكلمات تتردد في سماء المحروسة مُردّدة: (كان وجه أبي شاحبا وهو يعيد كلمات السيد كافيار. لم نطل المكوث هناك، إذ انتقلنا إلى وسط البستان(...) و[أبي] يقف مذلولا أمام السيد. ص:167/ في نهاية الأسبوع تعلقت عينا أبي بالسقف، مفتوحتين ولا تريان شيئا...ظللتُ أحركه وأناديه لكنه لا يرد...دخل بعض الفلاحين وتحسّسوا جسده، غير مصدقين أن أبي قد مات. /ص:233).

دوجة بين الألم والانتظار:

نتحدّث عن صوت "دوجة" أحد شخوص النص التي تتحرك وسط الأحداث بعناء وجهد، صوتها الغائب في التاريخ والبارز في النص، يقدّمه الروائي من خلال عناصر بدت لنا جلية متمثلة في:

الجسد: لم تعرف دوجة الدنيا إلا من خلال المحروسة. عندما زارتها لأول مرة خُيّل إليها أن الدنيا كلها مُختصرة في المحروسة، لكنها سرعان ما عرفت أن المدينة، التي عانقها الأتراك طويلا ما هي إلا إسبرطة شرقية، واستحالت أحلام دوجة إلى كوابيس، أحيانا بسبب جمالها وجسدها وأحيانا أخرى تقاسمت مصير المحروسة وتم الاعتداء عليها من أغاوات الترك، تتبعتها عيون القادة والجند ووجدت مصيرها المحتوم داخل المبغى الذي اتسع يوما بعد يوم، كلما زاد عدد الجند وقلّ عملهم. أمست متعتهم الوحيدة، ووجدت في ذكرياتها الصغيرة ملجأ جعلها تنتظر من أبناء البلد من ينتشلها من الأحزان. لكن الانتظار طال وبالكاد كانت أنفاس السلاوي تسعفه كي يفرّ هو الآخر من الجنود الأتراك ومحتلي اليوم الفرنسيين. اغتصبت دوجة مرتين وكأنها تختصر انتكاسة المحروسة مرتين، في أقل من عشر سنين.

الهروب: يتقاطع مصير دوجة مع مصير السلاوي، تهتدي سريعا أن السماء ما تزال تنظر إليها بعين الرعاية، رغم المآسي، وتجعلها تردّد على الدوام (ابتسم السلاوي في وجهي وصافحني، كانت خشنة وكبيرة بما يكفي لتختبئ يدي الصغيرة داخلها، أحسست بالدفء...يظل السلاوي يشغلني/ ص:86). في كل مرة تكون شوارع المحروسة ملجأها الأخير قبل أن تتلقفها أركان المبغى. مثلها مثل السلاوي بين جنبات المحروسة تفر حينا من العيون والوحوش البشرية، وحينا من أغلال الجنود الأتراك. أدركت دوجة سرّ الفرار والخوف الذي ينتابها وينتاب السلاوي حين قالت: (حدّثتني لالة الزهرة عن أشياء كثيرة عن السلاوي، بدت غامضة في البداية ولكنني بعد سنوات وعيت ما هجس به السلاوي، ولم ارتبطت حياته بالركض الدائم، سواء في زمن بني عثمان أو حين دخل الفرنسيون/ ص:86/ بعض شباب [المحروسة]كانوا إثرك يتصايحون بالموت للفرنسيين، هممت بالركض خلفك...رغبتُ بالقفز تجاهك/ ص:87)

الانتظار: يقولون ما جاور الباب نال قُربا، هكذا كان وعلى منوال الأوائل قال السلاوي (طرقت الباب بقوة ولكن أحدا لم يرد/ ص:299) لم يكن الانتظار هاجس السلاوي فحسب، ها هي دوجة تقف على أبوابه تعدّ العمر الضائع كضياع المحروسة، تعاود نغمة الحنين والاعتراف: (أيامٌ من الانتظار ولا طرق على الباب/ ص:300). وحتى في لحظات اللقاء القليلة كان هاجس الوحدة يُطاردها مثل يُطارد السلاوي والمحروسة (رحل السّلاوي صافقا الباب، وتركني وحيدة في الظلام/ ص: 301). تختتم دوجة النص وآلام انتظارها قائلة على موعد الانتظار الأبدي: (أحببتُ أن يظل [فراشه] على حاله إلى حين عودته، حتى الكوة لم أغلقها، عليها انتظاره/ ص: 381-382).

راهن «الديوان الإسبرطي» على تعدد صوتي من شخوص عديدة، لكن الخُمس المهمل كانت له كلمته بين سطوة الديوان وجبروت إسبرطة، وأشعل في آخر النص قدحا من البهجة على لسان دوجة: (لم يكن الرحيل عن المحروسة إلا دربا أخيرا لإدراك بهجة الحياة/ ص: 384).

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم