أحمد السماري

هي رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث، فثمة شخصيات سورية وروسية كثيرة جعلها الكاتب تتحرك بين روسيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وبين سوريا بعداندلاع الأحداث الشعبية والمسلحة. وقد اختار لها مكاناً افتراضياً أسماه بـ«الحي الروسي» أبدع في وصف تركيبته الديمغرافية ب " ثم إن الإحساس بالمفاهيم الكبرى والرسالات الخالدة عموماً، مقدسةً أو غير مقدّسة، كان دائماً ضعيفاً جداً عند كثير من الناس، ولا أعتقد أنه كافٍ لأن يجعل أياً منهم يموت من أجل معتقداته مهما كانت الأسباب. الناس هنا، منذ ظهور الحيّ الروسي، كانوا دائماً أوصالاً حيّة قادمة من أوطان بالية وعقائد بالية وطوائف بالية وقبائل بالية، تجمعهم الرغبة الأرضية الخالصة بالحياة، وليس الرغبة بأي هويّة واحدة مؤبّدة تحبسهم من جديد في فكرة متعجرفة كاملة".

تحتل شخصية الراوي مساحة كبيرة من الرواية كما تسجّل حضوراً طاغياً في النص السردي ولا توازيه في هذا الحضور إلا شخصية الزرافة التي تسقط قتيلة في أخر الرواية بعد أن تقود أهالي الحيّ المأخوذين بها

" كانوا الآن ساهمين، غائبين كأنما في حلم يقظة جماعيّ لذيذ، مُحْتَرِسين في وجودٍ هشَّ بين الحقيقة والخيال، مصدّقين وغير مصدّقين يُدارون إحساساً فاتناً بالخفّة، كأنهم يوشكون فعلاً على التحليق بالحي الروسي كلّه، بعد قليل إلى مكانٍ آمن مرتفع جداً في أعماق السماء. كانت عيونهم تلتمع ببريق أملٍ وليدٍ متهافتٍ حلوٍ عنيد."

هذه الرواية لم تكتب تاريخاً وإن كان حاضراً بقوّة، وإنما قدّمت فناً راقياً في قالب روائي شخصت فيه المشكلة السورية عبر ما اجترحه من أحداث وشخوص وفي الأمكنة المتخيّلة المتجاورة والمتفاعلة ذاتها في فضاء روائي حافل بالحكايات والمشهديات المؤثّرة، وكأننا خرجنا للتوّ من فيلم سينمائي من أفلام الخيال الآسر.

وسعى الكاتب إلى تفكيك المتعارف عليه في العلاقات بين الناس والأشياء والحيوانات وغيرها، ومزج باقتدار الواقعي بالمتخيل، إذ يصل للقارئ وأبطال الرواية على السواء آثار الحرب وأصوات القنابل والمدافع، في الوقت نفسه الذي يدور فيه حوار بين الأبطال حول تثاؤب الزرافة أو كيفية الاعتناء بالعصفور، ومراقبة أفكار الكلاب والاستفادة منها!، وعلاقته بوالدته وعلاقة والدته بالبكاء و العراق و حضيري أبو عزيز ، ووصفه العذب لذلك البكاء الذيذ " كان بكاء خالصاً من الأسباب، وبريئاً تماماً من أي غرض أو معنى. ولا تعرف معه كيف ولماذا تهلّ دموعها الصافية اللذيذة الخافتة. ولا تشعر بعده، كما يحدث غالباً بعد بكائها العادي القديم، بأنها مرضوضة ومنهكة ونعسانة وصوتها مبحوح، بل تشعر بأنها خفيفة ونظيفة ولا تريد أبداً أن تنام. وأنها فوق ذلك لا تكره أحداً أو شيئاً في الدنيا، بل تكاد تحبّ الجميع".

لم يشأ الكاتب أن يتناول الحرب السورية إلا بهذه بطريقة فنتازية والتي أنقذت نصه من الوقوع في فخ المباشرة والتقريرية، كما لجأ إلى الترميز في مواضع كثيرة من النص السردي الذي يجمع بين الحوار المسرحي الذكي، واللغة الأدبية الفصيحة .وختم كلّ ذلك الجمال بجملة رمزية على لسان الراوي " أستطيع أن أشرح لك الآن ماذا فعل تورغينيف بالأدب الروسي".

وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» 2020.

مقتطفات من الرواية :-

- " لا بدّ من الخوف، ردّدْتُ وراء نونُا. الخوف يعلم الشجاعة ويحض على المعرفة ويضع الخائفين على حافة المجهول والفعل. ونحن نريد من كلّ قلبنا، أن تخاف الزرافة الآن من السباع لتفهمها أخيراً على حقيقتها دون أيّ تبعات على حياتها. "

- " لأن العراق كان يعني لها شيئاً محدّداً شديد الوضوح في حياتها، هو البكاء الذي لا يشبه أي بكاء آخر في الدنيا...وقد استنتجت أمي بنفسها، بعد أيام من وجود الراديو في المنزل، أنّ العراق، الذي سمعت باسمه من عمّها لأول مرة، إنما كان يعني في واقع الأمر حضيري أبو عزيز."

- " دائماً كانت تستصعب تركيب الكلمات على نواياها المألوفة والواضحة بالنسبة إليها فقط، ولم تكن، لا من قبل ولا من بعد، قد تعلّمتْ كيف تجعلها كلماتها هي، لتخرج من فمها على قدّ ما تحسّه وتريد قوله. وفي أغلب الأحيان كانت تترك الكلمات وشأنها حيث تجدها."

- " أننا حين نعيش على حافة الدمار يصبح سهلاً علينا، وضرورياً أيضاً، تعديلُ وتبديلُ، وربما حذفُ، كل معتقداتنا الراسخة التي ازدهرت في خمول السلم الملغوم والاعتياد والتظاهر واللامبالاة."

- " هل نسيت أنك مترجم ؟ أكثر ما ينفرد به المترجم عن باقي خلق الله هو أن العالم لا يستوي في عينيه ما لم يكن في نسختين. أعني في لغتين مختلفتين تقولان الشيء نفسه. كل الناس لهم عينان اثنتان، لكن معظمهم يورن العالم بعين واحدة لأن عينهم الثانية تكرر العالم بالطريقة نفسها التي تراه فيها عينهم الأولى."

- " الأبطال واضحون، لا يشتّتون أنفسهم بكثرة الاحتمالات ولا يُغرقون أفكارهم بالهواجس والمخاوف والأسئلة، ولا يعرفون كيف يرتابون بأنفسهم وبنواياهم وغاياتهم ولا كيف يسخرون منها. إنهم تماماً مثل عصام، يعرفون جيداً، من أقصر الطرق وأوضحها، ما يريدون وماذا يفعلون وإلى أين يمضون ومتى."

من صفحة الكاتب على الفيسبوك

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم