فيء ناصر

"قلة من البشر الناس  يموتون من الحب. لكن الكثرة تهلك وتفنى كل ساعة- وفي أكثر الأماكن غرابة - بسبب فقدان الحب." هذه العبارة التي وردت على لسان جاك احد شخصيات رواية جيمس بالدوين الثانية (غرفة جيوفاني)، تلخص مغزى رحلة البطل والرواي (ديفيد)، وهي رحلة داخلية لإستقصاء الروح وكشف عوالمها في دروب الحب الشائكة، كما انها رحلات خارجية نحو الآخر وان تعددت أسمائه.

وصل جيمس بالدوين المولود 1924 في حي هارلم في نيويوك،إلى باريس بعمر الرابعة والعشرين، المدينة التي كانت نافذته إلى التحرر من الخوفين ألأكبرين، خوف كونه مثلي الجنس وخوف لونه الأسود :"منذ أن وجدت نفسي في الطرف آلآخر من هذاّ المحيط إستطعت أن أرى بوضوح من أين أتيت، أنا حفيد عبد، كما أنني كاتب. وعليّ أن أتصالح مع الأمرين."

في باريس، إلتقى شابا سويسريا اسمه لوسيان هابرزبرغر و(غرفة جيوفاني/ 1956) روايته الثانية مهداة له. كان لوسيان ملهمه لكتابة الرواية، حيث البطل ديفيد الذي يعيش في باريس الخمسينيات، ويعاني من إلتباس النوازع والغربة الداخلية والمكانية ويقيم علاقات جنسية وعاطفية يفشل بها ويبقى وحيدا في النهاية. بعض أجواء هذه الرواية مستوحاة من أحداث واقعية عايشها بالدوين ومن تجاربه ويومياته في باريس كما صرح بذلك في مقابلة له عام 1980: "كنا نلتقي كلنا في حانة، وكان هناك شاب فرنسي أشقر يجلس الى طاولة، يشتري لنا شرابا دائما، وبعد يومين او ثلاثة رأيتُ وجهه في العناوين الرئيسية في الصحف، قبضوا عليه وأُعدمَ لاحقا بالمقصلة، حين تمعنتُ بوجهه جيدا فكرتُ اني عرفته وحادثته  بدون علم مسبق اني أجلس مع قاتل." ورغم ان هذه الرواية تعتبر من كلاسيكيات الأدب المثلي في العالم، لكنها ليست رواية عن المثلية الجنسية بقدر كونها محاولة للإجابة عن سؤال ما الذي يحدث لو أن المرء خائف جدا من الإفصاح عن نفسه وخوفه هذا يمنعه من الإنكشاف التام مع الآخر بالحب او بالصداقة. وبخلاف روايته الاولى، فأن كل أبطال روايته الثانية (غرفة جيوفاني) من ذوي البشرة البيضاء وحينما سُئِلَ بالدوين عن السبب قال انه لا يستطيع تحمّل العبئين معا، عبء لونه الأسود وعبء مثليته الجنسية. 

شكلتْ هذه الرواية إنعطافة حقيقية في حياة جيمس بالدوين الأدبية فبعد روايته الاولى (أعلنوا مولده فوق الجبل/1953) صُنفَ بالدوين ضمن الكتاب الامريكين السود المنضوين تحت حركة المطالبة بالمساواة والحقوق المدنية والذين يعبرون عن معاناة السود في كتاباتهم. لكنه في هذه الرواية اختار موضوعا وشخوصا تُبطل تصنيفه ضمن ذلك الإطار تماما. وقد رفضها ناشره الأول معللا السبب في انه لا يريد المجازفة بخسارة القراء وتحطيم سمعة الكاتب ودار النشر. نُشرتُ الرواية في امريكا لاحقا عام 1956 من ( دايل برس) ومن دار نشر (مايكل جوزيف) في المملكة المتحدة.

مسرح مواجهة الذات

تبدأ رواية غرفة جيوفاني ببنرة حزن خفيضة وجمل افتتاحية توحي بالقدرية والإستسلام. يتعرف القارئ على الراوي وهو يحدق بإنعكاسه في النافذة المظلمة. وحالما يستدير عن النافذة تبدأ نبرة صوته بالإرتفاع، هو لا يهمس بل يعترف ويصرخ كأنما يواجه جمهور عريض. وهذا الصوت هو صوت مسرحي تتداخل فيه تفاصيل حياة البطل الآنية مع ذكرياته، تتداخل الأمكنة كذلك، بيته الحالي (خشبة المسرح التي يواجه بها جمهوره/ نفسه) مع أماكن اخرى من ماضيه. ومنذ الصفحة الثانية في الرواية، حيث يصف (البطل/ الراوي) بكلمات وجمل بسيطة وبتكرارات حاذقة، علاقة الحب الحرة التي عاشها حينما تعرّف على حبيبته هيلا. لكن الصفحات التالية من الرواية ستكشف شعور الذنب المطلق الذي ينوء البطل بحمله، والذي يسرده ديفيد بنبرة تأنيبية صريحة، متفحصة وحكيمة، لأنه وصل الى نقطة نهاية تؤهله للحكم على نفسه بكل وضوح. فالبطل ديفيد متأهب لمحاكمة نفسه، فهو لا يروي قصته ويصعّد وتيرة الاحداث فقط، بل يحكي ليعترف ويكفّر عن ذنبه بحثا عن خلاصه. أبدع بالدوين في إبتكار إسلوب الاعترافات وهو إسلوب يعتمد على إنثيالات البطل الذي يعاني وحيدا ويظل متخبطا في حيرته، بغياب من يستمع اليه ويمنحه المغفرة والصفح. يكتب جيمس بالدوين بتجل تام في وقت كان الافصاح عن الهوية الجنسية غير مقبول اجتماعيا. هذه الرواية تتميز بإسلوب متجرد في تسليط الضوء على وعي الذات وهويتها الخيرة والشريرة.

ينجح جيمس بالدوين في هذه الرواية ايضا بالإنتقال بعفوية وسلاسة بين اشراقات وحماس بداية العلاقة الحميمية وبين عتمتها وفتورها ونهايتها، وهو يحسن المزاوجة في وصف هذا الانتقال، بين الهمس الخفيض في لحظات الافصاح، الى مشاهد أخرى يوشك القارئ، أن يسمع صرخات ديفيد الهلعة، بل ويرى نظراته الثابتة التائهة. وحينما يستعيد البطل ليلة لقائه بجيوفاني وهو (بطل الرواية الحقيقي) والذي يصفه ديفيد أكثر من مرة بانه المسيح او المخلص الذي يظلمه تابعه المقرب يهوذا ويسلمه للموت، يظهر تأثر بالدوين العميق بتربيته الدينية المتزمتة فهو يستشهد في نهاية الرواية بنص صريح من الانجيل ص209.

في الليلة التي يلتقي بها البطل ديفيد بجيوفاني، فأنه يلتقي ايضا بقدره وهو مشهد يستهلمه جيمس بالدوين من شكسبير وتحديدا من مسرحية ماكبث، ولاغرابة فبالدوين كان قارئا ممتازا لشكسبير، فبغمرة إنتصار ماكبث تنبع له فجأة من الارض ثلاث مخلوقات مشوهات أقرب الى كونهن ساحرات، يتنبأن بنبوءات ستوجه قدر ماكبث لتحقيقها، وهذا بالضبط ما يحصل مع ديفيد فبغمرة إنتصاره على منافسيه لنيل إعجاب الفتى النادل جيوفاني، فانه سيكون بمواجهة كائن مريب، يصفه بمومياء خرجت للتو من لحدها بعد أن وُضعت فيه، ويتنبأ هذا الكائن الغريب وغير المعرف بقدر ديفيد وبأنه سوف يعيش تعيسا ويصلى بنار جهنم.

وتدريجيا تتحول قصة الحب إلى سؤال عن الهوية وإلتباس في معنى العلاقة وصعوبة توصيفها او تسميتها. يشعر ديفيد في لحظة ما بحب عميق نحو جيوفاني وهما يمشيان في الشارع، وفي اللحظة التي تليها يقترب منهما فتى غريب، فيصبغ عليه ديفيد مشاعره تجاه جيوفاني. يصيب ديفيد جراء هذا الإلتباس الحزن والأسى ويشعر بالخزي والارتباك: " شعرت بالحزن والارتباك والخجل من نفسي ومرارة عميقة." وسوف تلحق هذه الجملة جملة اخرى لاتقل عنها " لقد فُتح كره في داخلي لجيوفاني قويا مثل حبي له ويعتاش من الجذور ذاتها". ومثلما يشعر ديفيد بالانجذاب الحسي الشديد لجيوفاني، فأنه يشعر ايضا بالنفور التام منه وتقريبا في اللحظة ذاتها: " لم تفشل لمساته أبدا في إثارتي ومع ذلك فأنفاسه الحارة الحلوة جعلتني على وشك التقيؤ". فالحب في هذه الرواية وكما يصرح بالدوين نفسه في أحد مقالاته:" الحب لا يبدأ وينتهي بالطريقة التي نفكر بها، بل ان الحب معركة وحرب وان الحب يكبر دائما.".

ما من مشاعر مستقرة في هذه الرواية، ويظهر هذا جلياً في مجموعة مشاهد متعارضة، وتصريحات متناقضة للشخوص. عند إقتراب النهاية، يصرح ديفيد بإرتباك هائل:" لا ادري ماهي مشاعري تجاه جيوفاني. لا مشاعر لدي، شعرتُ بالرعب والشفقة والشهوة الحارقة".

 البطل ديفيد يعاني من عدم القدرة على الحب مما يجعله منبوذ وهامشي، وهو يراقب ذاته والاخرين بدقة وحدّة، ويزيد من وتيرة جلده لذاته وتأنيب الضمير. يواجهه جيوفاني بهذه الحقيقة :" انت لا تحب احدا! لم يسبق لك أن أحببت وأنا متأكد انك غير قادر على حب أحد ما مستقبلا!"

الحنين إلى الوطن

يقول جيمس بالدوين في أحد مقالاته :"حينما عبرت المحيط وصرتُ بعيدا عن أمريكا عرفتُ معنى أن أكون أمريكيا"، يتردد صدى الحنين الى الوطن كثيرا في الرواية، لكن هذا الحنين مشحونا بعواطف متناقضة ومفارقات كثيرة من أهمها ان البطل يريد الهروب من نفسه بمغادرة الوطن، وعبر صفحات ومشاهد كثيرة بدءا من الأب الذي يريد من ديفيد أن يعود الى الوطن كي يستقر، وكذلك حين يرى ديفيد بحارا يعبر الشارع أمامه بعد أن إنتهى لتوه من قراءة رسالة والده، البحار يجعله يفكر في الوطن لكن أي وطن: " الوطن ببساطة ليس مكانا بل حالة مفروغا منها."  لكن البحار يجعله يفكر ويواجه وطنا آخر بعد أن لمح في عينيه الإزدراء، وهو حقيقة مثليته الجنسية التي يحاول ديفيد بشتى الوسائل إنكارها والهروب منها. ثيمة الأفصاح والإخفاء أساسية في هذه الرواية مثلما ينتقل البطل بين علاقته الجنسية الطبيعية مع حبيبته وعلاقته المثلية بالرجال، وطوال الزمن السردي ينتقل الراوي بين هذه الهوية الجنسية المتقلبة بإستخدام إيحاءات متعددة للبوح بالشكل والنظرة والابتسامة والأنفاس الحارة وغيرها، كما لو انها لحظات اعترافه النقية.

يستلهم أغلب الروائيين أبطالهم من شخصياتهم الحقيقية نوعا ما وبأساليب مختلفة. وبطل هذه الرواية شاب أمريكي أشقر لكنه مجرد تنويع لوني لشخصية جيمس بالدوين الحقيقية التي خبرت حياة أمريكا ثم إستقر في باريس وجنوب فرنسا.

المكان بإعتباره شاهدا

العنوان (غرفة جيوفاني) يشير الى مكان وإنسان، المكان حيز ضيق محصور بين أربعة جدران وغالبا ما يستدعي في الذهن المتعة الحسية، ورغم ان هذه الغرفة موجودة في مدينة كبيرة مثل باريس، لكن مكان الرواية الأهم هو الغرفة التي تحولت بشكل او بآخر إلى بطل ايضا، فهي التي تراقب بصمت. في هذه الغرفة يبدأ ديفيد في ملاحظة إستجابات ملتبسة ومشاعر منقسمة، ليس مع ذاته بل مع بقية الشخوص. عندما تعود هيلا حبيبته من اسبانيا على سبيل المثال يقول:" كل شيء بيننا عاد كما كان من قبل وكل شيء كان مختلفا". وهذا ما يحصل لديفيد مع جيوفاني عندما يعود إلى الغرفة لجمع أغراضه، فهو يحبه لكنه لايستطيع مواصلة العيش معه.  

في الصفحات الاخيرة من الرواية يعود إسلوب السرد إلى شكله في صفحاتها الاولى، بسيط ويعتمد الجمل القصيرة حيادية المشاعر التي تهيمن على الأحداث بالسرد المكثف، بعد أن أُشبِعتْ فصول الرواية بالحوارات والنقاشات، خصوصا الأفكار الرائجة في حقبة الخميسينات مثل المطالبة بحقوق المرأة وحقها في الأختيار الواعي لزوجها او شريكها.

في الفصل الأخير تكتشف هيلا الميول المثلية لديفيد وتواجهه بأن على الامريكين عدم القدوم الى أوربا، لأنهم يتسببون بالفوضى أينما حلوا(هذه نبوءة اخرى)، تقول هيلا:"على الامريكين أن لا يأتوا الى اوربا لانهم سوف يفقدون السعادة، وما معنى حياة الأمريكي حين لا يكون سعيدا، أنّ السعادة هي كل ما لدينا" هذه الفكرة في تحطيم الحلم الأمريكي سوف تكون محور رواية حيمس بالدوين التالية ( وطن اخر) وهي ايضا محور مقالاته الرائعة. وفي سطور الرواية الاخيرة يمزق ديفيد برقية الموت ويرميها في الهواء كي يلتحق مع بقية الناس بإنتظار الباص، لكن الريح تُعيد بعض مزق البرقية اليه، دلالة على ان الإنسان لا يستطيع التحرر التام من ماضيه مثل الامم.

صدرت الترجمة العربية لرواية غرفة جيوفاني عام 2018 بغلاف طبعتها الاولى وعن دار نشر روايات الإماراتية وبترجمة كاتبة المقال.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم