لغز السرد ولغز الخطيئة في رواية (الورم) لإبراهيم الكوني
علي السياري
يكتسب مفهوم الخطيئة مرجعيّة دينيّة، حيث يتّصل أساسا بالإساءة إلى الربّ والآلهة في كل الأساطير أو الأديان. وتتنزّل السلطة، في هذا السياق، باعتبارها العنوان الأكبر للخطيئة، وباعتبار أنّ كلّ من يسعى إليها إنّما يسعى إلى الخطيئة. فالسلطة هي مبدأ ديني، وهي حكر على الأرباب والآلهة منذ نشأة الأديان ما قبل السماوية. وننجد هذه الرؤية الأنثروبولوجية للسلطة ماثلة بشكل واضح في أغلب روايات إبراهيم الكوني.
وتعدّ رواية "الورم" التي نُشرت في طبعتها الأولى سنة ثمان وألفين أهمّ روايات الكوني التي عالج من خلالها فساد السلطة السياسية حيث رسمها باعتبارها خطيئة وفق أسلوب استعاري. ويعتبر الكوني في أحد الحوارات المجراة معه أنّ الورم أو مبدأ الورميّة هو لغز العالم. ولذلك فإنّ الناس، من منظوره، يبحثون عن الألغاز كما يبحثون عن كتاب يفسّر لهم أخطر لغز يهدّد البشريّة. والورم كما يحدّده الكوني ذو هويّة خبيثة لأنّ السلطة في كلّ الثقافات وفي كلّ الديانات والمعتقدات منذ أقدم العصور إلى اليوم هي ورم، فهي إذن خطيئة. والخطيئة عمل لاأخلاقي ومن هنا فإنّ السلطة لا بدّ أن تكون بالضرورة عملا لاأخلاقيّا مهما حاول التحلّي بالنبل، فلا أخلاقيّات في السلطة لأنّها خطيئة، ولأنّها، أيضا، محاولة للاستحواذ على العالم وهي تحمل في جوهرها اللعنة التي لا تختلف عن لعنة طرد الإنسان من فردوسه السماوي. فكلّ صاحب سلطة يسعى إلى الاستحواذ على العالم، وهو، بذلك، يتبنّى مبدأ الامتلاك، وكلّ ذلك في فلسفة إبراهيم الكوني يتعارض مع الجوهر الإنساني ومع مبدإ الروح.
وتبدأ رواية "الورم" بحدث غريب يتمثّل في التصاق الخُلعة الجلدية التي يلبسها "آساناي" على جسده، وهنا يستدعي الخدم والسحرة لمساعدته على خلعها لكنّها تزداد التصاقا به ويفشل في خلعها، فهي قد تلبّسته وأصبحت جزءا من جسده. وتنشأ عن هذا الحدث الرئيس في الرواية أحداث أخرى تنتهي بموت آساناي جرّاء عشقه للسلطة وبحثه عن مبدإ الامتلاك ومخالفة نواميس السماء وشرائعها. فآساناي الذي يعني في لغة تماهق (لغة الطوارق) الكافرَ، يسعى عبر كلّ السبل إلى الحفاظ على سلطته التي منحها له الزعيم ويقتل كلّ من يسعى إلى افتكاكها منه وكلّ من يعارضه من الرعيّة أو الحاشية، وهو يرى في السلطة مبرّرا لوجوده وغاية أساسية له. ويمارس صاحب السلطة في رواية "الورم" أنواعا من القهر والاستبداد في علاقته بمستشاريه، وهنا يمكن اعتبار الساحر ممثّلا لصورة المثقّف القريب من السلطة، فهو يسعى إلى أن يقدّم لآساناي النصح ويعدّل من طبيعته العدوانية والاستبدادية لكنّه يصطدم بطغيانه ورفضه التنازل عن الخُلعة الجلدية التي ترمز للسلطة المطلقة.
والملاحظ أنّ رواية "الورم" تعالج مسألة الاستبداد السياسي وهي تسعى إلى فضح مبدإ حبّ الامتلاك بما فيه امتلاك السلطة ولكنها على عكس أغلب الروايات الليبية أو العربية التي عالجت الاستبداد السياسي تعمد إلى اتباع أسلوب استعاريّ، فهي لا تقدّم السلطة على أنّها السلطة الواقعيّة التي يمارسها الحاكم العربيّ كما أنّها لا تقدّم صورة للمثقّف المعادي للسلطة وفق صورته الواقعية، بل إنّها، مثل كلّ روايات إبراهيم الكوني لا تتعامل مع الواقع باعتباره واقعا وهو ما يفسّره الكاتب في إحدى شهاداته حول تجربته الإبداعيّة حيث يقول: " نحن أمّة تتعامل بالاستعارات فلا نتعامل مع الواقع بما هو واقع، إنّما نتعامل مع ظلال الواقع وروحه، فهذه قوانين الأدب منذ أن خُلق. وهذا يعني أنّنا عندما نكتب عن الطغيان يجب أن نكتبه بروح الأدب التي هي روح استعارية، ولا تعني الاستعارة في هذا السياق تبنّي الخطاب السياسي المباشر مثلما يفعل أغلب الكُتّاب والروائيين، وهنا يكمن الفرق بين الأدب الحقيقيّ الذي يخضع إلى مقاييس الإبداع التي سنّها رائد الآداب العالمية هوميروس وأدب السلعة الذي يخضع إلى مقاييس السوق" (12).
كما أن الكتابة الروائيّة عن الطغيان لا بدّ أن تكون كتابة بمستوى الأسطورة، وهي في رواية "الورم" أسطورة الحاكم المستبدّ والطاغية الذي يتماهى مع السلطة حتى إنّه لا أحد يستطيع انتزاعها منه إلاّ بانتزاع روحه، بمعنى أنّه لا بدّ من قتله حتى يصبح من الممكن أخذها منه. وتبدو تيمة الطغيان في هذا الرواية أشمل من حصرها في الحاكم السياسي باعتبارها ذات معنى وجودي معبّر عن الطغيان في صورته الشاملة رغم أنّ السياسي يمثّل النموذج الأهمّ، حسب الرواية، لتجسيد الاستبداد والفساد والحلول محلّ الأرباب والآلهة باسم السلطة وحبّ التملّك. ومثلما تبرزه الرواية على امتداد صفحاتها فإنّ السلطة تنّين أسطوري مخيف ورهيب، وهي مارد في غاية الجبروت، ولها القدرة على إفساد النفوس، حتى نفوس القدّيسين الذين من عادتهم أن يزهدوا في الدنيا ويرفضوا كلّ مبادئ الامتلاك أو التسلّط. وبناء على ذلك فإنّ رواية "الورم" تدعو إلى معاملة السلطة باعتبارها عدوّا لإنسانيّة الإنسان وعدوّا لمبدإ الروح والطهارة. والحق أن هذه الرؤية المخصوصة للسلطة نجدها في سائر كتابات إبراهيم الكوني حيث إنه يقدّمها باعتبارها خطيئة وجب الابتعاد عنها وعدم السعي وراءها.
0 تعليقات