ساق الفرس والواقع المسكوت عنه
فيء ناصر
تبدأ رواية ساق الفرس للروائي العراقي ضياء الجبيلي، والصادرة عن دار الفراشة لعام 2019، بحادثة انتحارغريبة، حدثت في العاشر من نوفمبر عام 2016 في لندن، انتحار فتاة عراقية تدعى عبير في التاسعة عشر من عمرها، كانت قد نجت من الموت مرارا في العراق، لكنها أنتحرت في لندن التي قدمتها لاجئة، رمتْ نفسها من الطابق الرابع في العمارة التي تعيش بها، على طريقة انتحار الممثلة سعاد حسني. تروي الأحداث أختها (سليمة)، التي تتلقى خبر انتحار شقيقتها أثناء تدوينها ملاحظات عن طقوس الندب والعزاء في العراق القديم كجزء من بحثها لنيل شهادة الماجستير، في مكتبة جامعة الدراسات الشرقية في لندن. يبدو الفصل الأول وعنوانه (لندن) بأقسامه الخمسة، مليئا بالمعلومات التاريخية، سواء ما يتعلق بالتراث الرافديني الذي تدرسه (سليمة) او الحقائق التاريخية القريبة لمنطقة وايت جابل اللندنية التي تعيش الأختان فيها، والتي اقترنت بجرائم غامضة حدثت نهاية القرن التاسع عشر وبقي القاتل مجهولا حتى اللحظة، وهو ما عرف بجاك السفاح. كذلك كان هذا الفصل مفتتحا لكثير من الإستذكارات والحقائق ترويها (سليمة). قد يبدو هذا الفصل مملا قليلا للقاريء الذي سيتسائل ما جدوى كل هذا السرد الهامشي، بقضية الانتحار التي هي عقدة الرواية ومحورها، لكن مجريات السرد في هذا الفصل ستجد ضالتها وصداها فيما سيأتي من احداث، ويبدو أن الروائي خطط جيدا للبدء برواية تشبه المواويل العراقية بإحتوائها على كمية مهولة من الحزن والمصائب. الرواية تجري على لسان سليمة بطريقة التداعي التي يمتزج بها الماضي والشكوك والإستطرادات والإنزياحات الأدبية، سليمة التي كانت امها تناديها ب(سْلَيْمَة) بتسكين السين، وهي مفردة بالدارجة العراقية ومعناها الموت او الكارثة الماحقة وقد وجدت سَليمة أصل المفردة في البابلية او الآرامية (سليموت) ومعناها شبح الموت. وبما إن لكل امريء من أسمه نصيب، فأن نصيب وهوية سليمة هو شبح الموت الذي سيظل يطاردها، فهي امرأة قد وجدت وطنا لها في مصائبها التي تبدو بلا نهاية، بينما كانت الغواية هي نصيب أختها عبير الذي رافقها منذ طفولتها، وقد وجدت الأخيرة ملاذها في الغواية. ينتهي الفصل الأول بمراسم هادئة لدفن عبير في أرض غريبة.
في الفصل الثاني، وعنوانه (البصرة) بأجزائه الخمس، نعود إلى حي عشوائي يعسكر قربه أحد ألوية الجيش العراقي على أطراف مدينة البصرة، أبان حرب إحتلال العراق 2003 . إتخذ الفقراء من أبنية لواء الجيش، مساكن عرفتْ بحي الحرية، بينما صارت مخلفات الجيش المدمرة من دبابات وأليات، ساحة لهو لأطفال الحي. سليمة البنت الكبرى التي أُجبرتْ على ترك دراستها الجامعية من قبل الأقارب بحجة (ماعدنا بنات تروح للجامعة)، وعبير الصغرى المصابة بإلتباس الهوية من جهة، فهي ترفض أنوثتها وتلعب مع صبيان الحي كصبي، ومن جهة أخرى وصلت الى سن البلوغ في عمر مبكر. وأمهما التي تشتغل عاملة تنظيف في أحد مستشفيات المدينة، بينما غيّب الموت الأب فجأة. تتعرض عبير إلى حادثة في أحد ليالي كانون الثاني من عام 2005، وهذه الحادثة ستصيبها بالخرس وستغيّر مصير النساء الثلاث إلى الأبد. صمتتْ عبير عقب الحادثة وكأن صمتها هو طريقتها في التعبير عن احتجاجها ضد ما تعرضت له، وصمتها هو سلاحها في ذات الوقت.
تسرد سليمة الكثير من وقائع انتهاك الطفولة بالاغتصاب والقتل وسوء المعاملة، لكن محنة الإنتهاك تزيد من عاطفة الأخت الكبيرة تجاه شقيقتها وتصبح هذه المسؤولية معنى لحياة سليمة ودافع لمواجهة ما سيواجه الشقيقتان من محن لاحقة.
بطلة الرواية الفعلية ليست سليمة التي تجلس في شرفة شقتها اللندنية، وتستذكر حوادث آخر عشر سنوات من حياتها، بل هي الشقيقة الصغرى (عبير) البكماء، والتي عرفتْ كيف تغوي اولئك (اولئك مفردة جمعتْ بها سليمة كل القساة والمحتلين والطغاة والمنتهكين)، في سيناريو سادومازوشي، وعرفت كيف تسيّرهم حسب أهوائها، فهي تمسك (اولئك) في شباكها وتجعلهم يشعرون انهم يسيطرون عليها لأنها بكماء، في حين أن كل اولئك هم عبيد لغوايتها وصمتها.
تذكرنا سليمة في هذا الفصل بانتهاكات الطفولة التي حصلت بعد عام 2003، مثل اعتداء الجنود الأمريكان على الطفلة عبير قاسم الجنابي وقتلها مع عائلتها، وحوادث عديدة لأنتهاك الأطفال ثم قتلهم شهدتها المدن العراقية، وكذلك حالات القتل والإغتصاب بحق النساء التي شهدتها البصرة في اعوام( 2005-2008) ولاحقا إنتهاك اليزيديات وتعرضهن للبيع في سوق النخاسة. ينتهي هذا الفصل بلجوء سليمة وعبير إلى بريطانيا بعد أن عملتْ سليمة في القاعدة البريطانية في البصرة وتعرضها لمحاولة قتل واغتصاب ورميها بالقرب من مقبرة الانكليز في البصرة، وانقاذها من قبل أحد ضباط القاعدة البريطانية والذي سيكون له دور كبير في حياة الشقيقتين.
تجري احداث الفصل الثالث في لندن، بعد موت عبير، حيث تعتني سليمة بفرس انقذتها من الموت بعد أن كسرت ساقها في مضمار سباق. تُشبّه سليمة المرأة التي تتعرض للإعتداء بالفرس المكسورة الساق والتي لا ينفع معها أي علاج سوى القتل الرحيم، وكأن روح المرأة المنتهكة هي كساق الفرس، ستظل مشوهة ومنهوبة ولا ينفع معها علاج النسيان مهما طال الزمن.
يوظف الروائي الأمثال الشعبية العراقية بالسرد، على لسان سليمة التي تربتْ في بيئة شعبية، لكن الأهم انه قارب اسطورة عشتار وارشيكال في العلاقة بين عبير وسليمة في تراتبية الافعال والوقائع لكن بطريقة معاصرة. (عشتار/سليمة) تحب وتضحي وتحاول أن تصبح اما، بينما (أرشيكال/عبير) فتاة العتمة التي تغار وتغوي وتسرق بصمت ثم تموت مع اسرارها. نزول عشتار إلى العالم السفلي لإنقاذ حبيبها تموز يكون مرادفا لهجرة سليمة إلى لندن ومحاولتها الفاشلة بإستعادة الخصب وانجاب طفل هجين من زوجها الإنكليزي.
حفلت الرواية بالكثير من التعقيدات السيكولوجية من خلال شخصياتها الرئيسية الثلاث الذين تشاركوا العيش في شقة في حي وايت جابل شرق لندن، عبير شخصية مُربكة للقريبين منها منذ طفولتها، ومرتبكة في ذات الوقت، وقد تحاشى الروائي أن تتكلم بصوتها لأنها لجأت إلى خيار الصمت المغوي. كذلك العلاقة المعقدة من حب وغيرة وتنافس بينها وبين اختها سليمة المصابة بالوسواس القهري، جعلها تغوي الرجال الذين يقتربون من سليمة. وايضا هناك العلاقة المتأرجحة بين الألفة والكراهية والاستغراب والإشمئزاز، بين سليمة التي لم تشف من صدمة ما بعد الاغتصاب ومارك الضابط الإنكليزي الذي أنقذ حياتها وتزوجها لاحقا. وقد أجاد الروائي في رسم شخصية مارك وسلوكه على امتداد زمن الروي، فمن حفيد لجندي بريطاني مدفون في مقبرة الانكليز في البصرة شارك في احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى، إلى ضابط في الجيش البريطاني في حرب 2003، تسببت دوريته في موت صبي عراقي بطريق الخطأ، ثم علاقته المعقدة بالاختين سليمة وعبير، فزواجه من سليمة الذي كان مجرد نزوة رجل تجاه امرأة سبق وإنتهكتْ، وهو نوع من الإعتراف بالذنب والتكفير عنه ورد الأعتبار إلى ضحايا الحرب غير المبررة من وجهة نظر مارك المتأخرة. ثم القاتل والمضطرب نفسيا الذي حاول الإنتحار برمي نفسه من جسر ويستمنستر.
في الفصل الرابع تعود سليمة الى البصرة بعد غياب عشرة اعوام للبحث عن أمها ومحاولة لإيجاد (اولئك) المنتهكين لها ولأختها. هذا الفصل اتخذ اسلوب اليوميات، فسليمة دونت تفاصيل رحلتها التي استغرقت اسبوعين، وبدأتها بزيارة لمنطقتها الشعبية، حيث أزيلتْ آليات الجيش الملوثة بالمواد المشعة مخلفة ورائها أطفال مشوهين ومرضى سرطان، وحلّ مكانها معمل لتصنيع الحبوب المخدرة تحت مسمى مصنع كريستال. لا سرد متخيل في هذه الرواية، فالشخصيات والأماكن والاحداث كلها حقيقية، حتى يخيل للقاريء انه يقرأ سيرة لحياة الشقيقتين. وكقراء يواجهنا الواقع برعبه الذي يتوالد في متوالية تبدو بلا نهاية، والذي لم تحاول هذه الرواية تزييفه، بل ان الروائي يسرده بصوت سليمة كنوع من ترويض الأحزان بالإفصاح عنه، لكن صوت الرواية الأنثى لم يخلو من نبرة ذكورية واضحة. لن تفلح سليمة في العثور على أجوبة لأسئلتها، لكنها تكتشف أن أمها اصبحت ضمن (اولئك).
رواية (ساق الفرس) هي السابعة في مسيرة الروائي ضياء الجبيلي، يعوزها الهوامش، فهناك الكثير الإحالات التاريخية والأدبية كان من الأجدر توضيحها بهوامش، وكذلك تلافي الأخطاء المطبعية الكثيرة.
عن الشرق الأوسط
0 تعليقات