أحمد العربي

سلالم النهار للروائيّة الكويتيّة فوزيّة شويش السالم؛ والصادرة عن دار العين 2012 رواية متميّزة، يعتمد رواتها أسلوب المتكلم، حيناً بلسان بطلتها الأساسية "فهده"، وأحياناً بصوت ابنها أو أحد اقاربها. الرواية، لا تعتمد الأسلوب المباشر في سرد أحداثها، بل تعتمد طريقةً مبتكرة، إنها الحوم حول المعيش للشخصية، الدخول في تفاصيل نفسيّة واجتماعيّة، ثم التحدّث عن شخصيات الرواية ضمن أرضية اجتماعية، وحياتية ونفسيّة معروفه، بالأصح تتحدث الشخصيات عن أنفسها في عالمها ومحيطها.

تبدأ الرواية بحديث فهده عن حفل تحييه مع أخواتها وأخريات، راقصات في أجواء سريّة جماعية، يقوم بها رجال ونساء كويتيّون، يريدون أن يعيشوا ملذاتهم دون موانع أو قيود.

ففي الكويت ينقسم المجتمع إلى ثلاث طبقات، المواطنون الكويتيون، الذين هم أسياد البلاد وأغنياؤها، لهم كل خيرات الكويت، والبدون وهم الكويتيون غير المسجلين في نفوس الدولة، هم كويتيون منذ سنوات بعيدة، لكنّهم محرومون من حق المواطنة، وهم يمثلون حثالة المجتمع، وفئته الفقيرة والعاملة والفاسدة، وأخيرا العمالة الوافدة من آسيويين وغيرهم، نساء ورجال يقومون مع البدون بكل خدمات المجتمع الكويتي، ليعيش الكويتيون المواطنون كسادة وسلاطين والباقي هم عبيدٌ للخدمة. فهدة بنت من عشرات الأولاد ذكوراً وإناثاً عند أب متعدد الزوجات، الأب "بدون". ونشأت فهدة على كونها من فئة البدون، وأنها بحياتها كغيرها من تلك الطبقة تعتمد على الخدمات التي تقدمها للأسياد المواطنين الكويتيّين. لذلك ربتها أمها مع أقرانها على تقديم المتع الجسدية، طبعاً بحدود لا تصل إلى ممارسة الجنس، ترقص مع أقرانها، ويغنّون ويحيون حفلاتٍ تحوّل حياة الأسياد الى الأجمل والأمتع. والأسياد الآخرون لهم واقعهم، إحساسهم بتميزهم وغناهم وسيادتهم، لهم عائلاتهم وارتباطاتهم المجتمعية، التي تنمّي تميّزهم وغناهم ومتعهم السرية والعلنية. يعتمد السادة على خلق تلك الحفلات مغلّفة بالسرية، بعيدين عن أنظار الزوجات والأزواج والأولاد، ليعيش كل منهم على هواه في متع مفتوحة لا ممنوع فيها، ولا حرام. فهده تعرف كل ذلك وتذهب لتلك الحفلات مع أخواتها وغيرهم، بحماية خالها، ليقوموا بدور مثيرات الغرائز ومحسّنات الأجواء، ويعودون محمّلات بالمال، وبعض الطعام والأعطيات، تربت على ذلك، وأدركت مبكراً أجواء التمييز الذي تعيشه وعرفت أنها إن لم تحسّن شروط حياتها بذاتها فإنها ستكون كأمها زوجة لرجل مزواج مهمتها المزيد من الإنجاب والسير في طريق حياة البدون على قساوتها وسوئها. لذلك قررت أن تتابع تعليمها إلى أن حصلت على الشهادة الجامعية، رغم أنها لا تعرف كيف تستفيد منها. فهدة تعرف أن أباها وأخوالها يعملون في الأعمال الدنيا وأحيانا في الأعمال القذرة، والتي يحاسب عليها القانون، أخوها صقور عمل بتجارة المخدرات وقبض عليه وسجن، أخوها الثاني بطاح يعمل في بيع المسكرات، خالها مسيّر أعمال أحد السادة المواطنين، لتغطية كل الأعمال القذرة من جلب عمالة أو تشغيلها، أو استغلالها لصالح السيد المواطن.

 حصل مع فهده متغيرٌ قلب حياتها رأسا على عقب، لقد اهتم بها أحد السادة وطلب منها الزواج، كان ذلك فوق تمنياتها، ومدخلا لها إلى الجنة بكل المعاني. السيد المواطن تزوجها بكتاب شيخٍ بالسر، أخذها الى عرينه، أبعدها عن عالمها، وكتم عنها عالمه، عاش معها انفلاتا جنسيا يظهر جوعا لا يُشبع، ذهب معها إلى كل بقاع الدنيا، رأت ما لم تكن تحلم برؤيته، عاشت ما لم تعلم بوجوده، بذخاً ومتعاً لم تكن تخطر على بالها أنه موجودة. كان يحبها على طريقته، إنها الغريزة المنفلتة من عقالها، وهي تراه كل شيء في حياتها. لم يحدثها عن حياته، عن مملكة المال التي تحكمها جدته لأبيه، ويديرها عمه، أموال واستثمارات تدور العالم، وتتراكم بشكل فلكي، جدّته التي تعيش أسطورة المال والأعمال، في كل بلد لها منزل، ولها مراكز استجمام في كل مكان. الشركة الأم تنمو، غير مسموح لأحد أن يغادر الشركة، الكل يأخذ كل ما يريد من الريع، لكن الشركة ستبقى موحدة إدارة وعملاً واستثماراً. كان حبيبها هذا الرجل الذي تفرغ لمتعه الشخصية، وترك تسيير الأعمال لعمه. استمرت علاقة فهده بحبيبها على انفلاتها ومجونها وغرائزها طويلاً، لم يتركوا أيّ مدخل للتمتع إلا ومارسوه. لكن القدر كان حاضراً لهما بقسوة، فقد توفي حبيبها وهما في حالة جماعٍ جنسي. كانت هذه صدمةً قاسيةً جداً لفهده مما جعلها تراجع حياتها كلّها وتكتشف أنها، لم تكن على علاقة جيدة مع الله، وأنها كانت نهمة لكل شيء دون إمكانية للإشباع، وأنها كانت مفتقدة للإيمان، وكان موت حبيبها هو من أيقظ حضور الله داخل نفسها. وبالفعل اعتكفت في جبل على ساحل عُمان بصحبة خالتها وزوجها، بحياة بدائية، استرجعت ماضيها، عمقت علاقتها مع الله، أصبحت أقرب للتصوف، قرأت لرابعة العدوية، وتمنت ان تكون مثلها. لم تمض أشهر على اعتكاف فهدة حتى اكتشفت أنها حامل بطفل من حبيبها، لقد رحل عنها وترك بذرته فيها التي ستلده لاحقا ويكون ابنا لعائلة والده الغنية، عائلة المواطنين، تذهب به لعمه، يعترف به ويرعاه. فهده تعيش حياة التدين وتعكسه على كل من يحيطها، يكبر الابن في عز عائلة والده، يسعى عندما كبر لمعرفة واقع حال العائلة، يكتشف أن عائلته وأمثالها يملكون البلاد والعباد والواجهة الأخلاقية المجتمعية، وأن البدون من أمثال أخواله هم المنذورون لخدمة السادة المواطنين، والقيام بكل الأعمال القذرة لحساب السادة، ويحاسبون عليها ويدفع السادة الثمن مالاً وحمايةً. يقرر الابن أن يذهب الى باريس، ويتعلّم ويعود مجدداً ليأخذ نصيبه من مال العائلة، ويعدّل من الظلم الذي يعيش في تلافيف المجتمع الكويتي.

هنا تنتهي الرواية، ويمكن لنا أن نستنتج من قراءة حكايتها أنّ أسلوب الرواية مختلف نسبياً عن غيرها، تعتمد الكاتبة على الغوص عميقاً في الموضوع الذي تريد أن يقاربه أبطال روايتها. فمثلا تتحدث عن الرقص مطولاً، تفلسف ممارسته، كطاقة تحرر وفلتان للغرائز. تتحدث عن الغرائز وعدم إشباعها، تتحدث عن الإيمان وكيف يعيش في نفوس الناس، وكيف يجب أن يعاش كعلاقة عشق مع الله، تغوص عميقاً في المجتمع الكويتي، كاشفة له، او بالأدق فاضحة له. مجتمع السادة المواطنين، والبدون المظلومين. لذلك نرى أنها مزيجٌ من الرواية والدراسة الاجتماعيّة النفسيّة والإنسانيّة. وهذا أثرى الرواية وجعلها متميزة. 

جعلتنا الرواية نطلّ على حقائق يعيشها إنساننا في مجتمعاتنا حيث اختلال التوازن بين العقل والعواطف والغرائز، والإيمان والضوابط المجتمعية. تحدثنا عن أمراض الغنى، وأمراض الفقر، وأمراض غياب الهدف السامي في الحياة، لذلك نجد أنّ أغلبَ الناس يركضون لصناعة مجدٍ زائفٍ نهايته ضارة لصاحبه، ولمحيطين به. لذلك كانت خاتمةُ الرواية محاولةَ الابن أن يعيد ترتيب العلاقة الاقتصادية والاجتماعية بتحقيق مطلب العدالة.

إن الحاضر الغائب في الرواية هو موضوع البدون الذي يتم التعامل معه بصفته حقيقة أبدية، رغم كونه مناقضاً لإنسانية الإنسان وشرعة حقوق الإنسان. متى تنتصر الإنسانية في الكويت وغيرها، ويصبح ككل دول العالم المتحضر، كل من يعيش على أرض الدولة لفترة زمنية متفق عليها مجتمعياً ويقوم بواجباته عليها، يصبح مواطناً له كلّ حقوق المواطنة، وعليه كل واجباتها، متى نتحول من النظم السلطانية والاستبدادية في بلادنا العربية، الى النظم الديمقراطية محققين الظروف الأقرب لحياة الإنسان الكريمة. حيث الحرية والعدالة والكرامة الانسانية.

هذا هو المسكوت عنه في الرواية والحاضر ما وراء السطور.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم