أحمد العربي

نغم حيدر: روائيةٌ سوريةٌ شابّة، تطالعنا في أول عمل لها "أعياد الشتاء" الصادرة عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان/ 2018.

روايةٌ تتناولُ لجوءَ فتاتين سوريتين إلى إحدى الدول الأوربيّة، وذلك على خلفية ثورة الشعب السوري على النظام المستبد، بدءاً من عام ٢٠١١م. تعتمد الرواية أسلوب المتكلم لكل من الفتاتين شهيناز و راوية، كل منهما تتحدث في مقاطع متتالية، عن واقع حياتهما اليومية في لجوئهم، غرفة تجمعهما في مجمع للّاجئين أوجدته دولة أوروبية، تدرس واقع من جاءها، عبر جلسات مع قضاة يدرسون حالات اللجوء، ويتخذون بحقهم القرار المناسب، حيث ينتقل البعض منهم بعدها للإقامة لسنوات، وينخرطون في تعلم اللغة والعمل والحياة في تلك الدولة.

شهيناز فتاة في مقتبل عمرها، تعيش في مركز اللجوء مع فتاة أخرى اسمها راوية، غرفة صغيرة فيها سريران يعلوان بعضهما، لكل واحدة سريرها، الوقت شتاء وفي ليلة رأس السنة، الثلج متراكم خارج الغرفة، البرد شديد. ستحتفل شهيناز وصديقها فهد وزميلتها في الغرفة برأس السنة في الغربة بشرب قنينة من البيرة تحت ندف الثلج وبجوار الغزلان المنارة التي تصنع وتوزع في المدينة لمناسبة رأس السنة من كل عام. شهيناز على موعد مع صديق لها خرج معها في اللجوء من سورية، اسمه فهد. شهيناز تعمل في الدعارة، وفهد من يؤمن لها زبائنها، الواضح انهما يعرفان بعضهما من السابق، وكانت مهنتها الدعارة منذ حياتها السابقة في سورية، وهو مشغلها منذ زمن بعيد. شهيناز فتاة من دمشق، منذ وقت بعيد اخطأت جنسياً، هربت من بيت أهلها، طلبت من أمها الصفح والمسامحة، لكن الأم لعنتها وتبرأت منها. كان طريق الدعارة منتهاها، تلقفها فهد الشاب، ذو الحدبة، القواد الذي يعرف طريق المسؤولين والضباط وأصحاب رؤوس الأموال، كان يقدم لهم شهيناز كعاهرة متميزة وجميلة، شهيناز كانت عاهرة تحب مهنتها، وتعرف كيف تصطاد زبائنها وتجعلهم يغدقون عليها، تألقت في سوق الدعارة حتى طلبها أحد أكبر ضباط الأمن اسمه قتيبة، الضابط المهاب القاسي في فرعه الذي يديره، والمجرم الدموي مع المتظاهرين ومع الناس عموماً. كانت شهيناز واحته التي يستدعيها، الى وكره الأمني او الى شقته السرية، ليطفئ نار وحشيته فيها، وهل التي تفننت في استدعاء ساديته وتوحشه، عبر جنس متنوع يغلب عليه العنف الجسدي، ضحيته شهيناز والبطل فيه الضابط قتيبة. كان قتيبة يمر بأسوأ أيامه، صحيح أنه يتصرف كإله في فرعه ومع المعتقلين والمتظاهرين ومع الناس عموماً. لكن الثورة أنهكته، وخاصة عندما أصبحت مسلحة، وظهر الجيش الحر، الذي وضع قائمة محاسبة وتصفية بحق قتلة الشعب السوري، كان قتيبة منهم، استهدف الثوار موكبه وهو متوجه مع أسرته الى الساحل السوري، حيث بلدته وأهله، وهذا مؤشر على طائفته العلوية، واجهوه وأطلقوا النار عليه وعلى عائلته وقتل ابنه الأصغر. جن جنونه وأخذ يبحث عمن سرب معلومة حركته وانتقاله للقرية، كل حركاته سرية، وهو يكاد يعيش في قلعة أمنية، لا بد أن هناك من هو قريب منه قد خانه، انصبت شبهته على شهيناز، التي استدعاها وكبلها في أدوات تعذيب كانت قد أهدته إياها، وبدأ يعذبها ويحاول معرفة ما إذا أخبرت أحداً عنه وعن حركته، كانت بريئة، لكنه توحش في تعذيبها انتقاما من قتلة ابنه، عذبها حتى فقدت الوعي وتسلخ جسدها، تركها بين الحياة والموت. استدعى مشغلها فهد، وأمره أن يأخذها ويذهب في لجوء الى دولة أوربية. فهد امتثل للأمر فهو بحقيقته عنصر أمني من الطائفة العلوية أيضا، يغطي نفسه بصفته قوّاداً يدير دعارة شهيناز وشبكة زبائنها. هكذا خرجا الى البلد الاوربي، وهاهما يعيشان في مخيم القدوم، يقدمان طلب لجوء الى تلك الدولة، قدم نفسه على أنه من طائفة النظام علوي لكنه يعمل مع الثوار والجيش الحر، لذلك هرب خوفا من بطش النظام، وأنه يحب شهيناز الفتاة الدمشقية المنتمية للثورة والتي قتل واعتقل بعض أهلها، وهم ضحية النظام، وحربه على الثورة و الثائرين وأهاليهم. فهد استمر في مهنته القوادة واستطاع أن يؤمّن لشهيناز بعض الزبائن، لكن خفية عن الدولة الأوربية، لأن ذلك مخالف للقانون، وإن عُرف يحاكم ويسجن ويسفّر هو و شهيناز، المستاءة من عيشتها، تحن إلى الضابط قتيبة، وتسأل عنه دوماً، فهد يخبرها أن لا عودة لها إلى سورية مطلقاً، وهو سيعود لأن مهمته قد انتهت، بحث لها عن فرص عمل كثيرة لكنها رفضتها كلها، يجب أن تتعلم لغة الدولة الاجنبية أولا. لكنها لم تستطع أن تقبل تحولها من أميرة ومعبودة كل الرجال الى مجرد عاملة تستهلك وقتها وصحتها لتعيش حياة باردة في بلاد البرد.

رواية: فتاة مختلفة، هي ابنة حي التضامن الذي شارك أهله في الثورة. والدها إنسان بحاله، هي الابنة الكبرى في البيت ولها أخوان توأمان صغيران. بعد الثورة السورية، ومشاركة أغلب أحياء دمشق، وضواحيها وريفها بمظاهراتها، كان والدها قد سمح لبعض المتظاهرين الفارين من الأمن الذي يلاحقهم بالدخول الى بيته وإخفائهم، وكانت النتيجة اعتقاله، وانقطاع أخباره، وعندما زاد الوضع سوءاً في سورية وبدء النظام في حملة قتل وتهجير السوريين وتدمير بلدهم، هربت راوية عبر البحر إلى أوروبا، استطاعت النجاة بروحها، والاستقرار في هذا البلد الأوروبي، راوية كانت مدرّسة موسيقى وأحبت مدرسا مثلها، تعيش هواجسها الأنثوية كفتاة تحتاج لحب وحنان وإشباع جسدي، وبيت وأسرة، لكن اللجوء أجّل كل الموضوعات. هي الآن في هذا المخيم تعيش مع شهيناز في غرفة صغيرة، لا تعرف عنها شيئا، لكنها تراها تهتم بمظهرها كثيرا، وتخرج كل يوم، ولا تعود الى المساء، تستغرب هذه العلاقة الملتبسة بين شهيناز وفهد، وعندما تسألها تجيبها أنه قريبها وحاميها في الغربة. تعمل راوية على أن تمر بمراحل طلب اللجوء بسلام حتى تبني حياتها في هذا البلد، تتواصل مع أمها دائما. أمها التي تجمع المال وتدفعه الى سماسرة يعدونها بالإفراج عن والدها، أو مشاهدته. راوية تستاء من أمها، تخبرها أن أباها قد قتل، وتسألها ألم تري ماذا فعل النظام بسورية وشعبها ؟!!. لكن الأم لا تيئس، وتبقى تطلب من ابنتها مزيداً من المال من أجل إعالة أخوتها والبحث عن أبيها، كانت راوية توفر بعض اليوروهات من معونة اللجوء الذي تحصل عليها، وترسلها إلى أمها. لا تلومها على ما تفعل، ليس أمام أمها إلا الأمل بأن تجد أباها، ويعود لأسرته التي تحبه. راوية تحتاج للحب ككل إنسان وتحتاج للرجل النصف الآخر، تكمل به ومعه إنسانيتها، تعرفت على لاجئ مثلها في مجمع اللجوء؛ عرفان الشاب الذي أصبح طبيباً منذ وقت قريب، غامر مع عائلته كلها عبر البحر واستطاع الوصول الى هذا البلد. وجد هو وراوية ببعضهما تلبية لحاجة نفسية وإنسانية، تبادلا الاعتراف بالحب، مع بعض اللمسات والقبل، وتواعدا أن يبنيا حياة جميلة بعد اكتمال إجراءات اللجوء، والاستقرار في البلد الأوربي. لكن عرفان يختفي دون أي أثر وخبر؟!، وتعود راوية الى انتظارها، وتحصل على حق الاقامة لثلاث سنوات، لتتعلم اللغة وتتقن عملا ما، ومن ثم تكمل حياتها الجديدة المفتوحة على كل الاحتمالات.

تنتهي الرواية وشهناز وراوية عند هذا المفترق من حياتهم.

ومن استقرائنا للرواية نقول:

هذه الرواية تتناول موضوع اللجوء السوري في بلد أوربي كنموذج، تغوص في ثنايا المعيش الذاتي والعام. نجحت الكاتبة في الغوص عميقا في ذاتية بطلاتها، كانت الشفافية النفسية والمعيشة مهيمنة على النص، بحيث أعطته حيوية ومصداقية مؤثرة ومعبرة. لم تقترب الكاتبة من حال الثورة السورية والشعب بشكل مباشر أو استعراضي. لقد لامست الموضوع بما هو منعكس على نفسيات وحياة بطلاته وحياة أهلهم. لكن القارئ سيقرأ ما حصل في سورية ومع شعبها ومن نظامها، سواء بالمسكوت عنه أو المذكور المباشر، الضابط قتيبة والعاهرة شهيناز ومشغلها المخبر ومن ورائها النظام المستبد القمعي بكليته هو صورة عن الجانب القذر والمسيء والمدمر للمجتمع السوري، الذي استدعى الثورة، هؤلاء أعداء الشعب، حاضرين حتى في اللجوء، كامتداد للنظام وتغلغله في وسط اللاجئين، للاستخدام حين الطلب. أما راوية فهي صورة عن الشعب الفقير البسيط الذي ثار، هي المعلمة الأخلاقية التي تحلم بالحب والحياة الأسرية والإشباع النفسي والجسدي الحلال. الأب البسيط الطيب دائم الصمت حنّ على المتظاهرين وآواهم وكان مصيره الاعتقال والاختفاء وربما القتل، راوية التي هربت بنفسها، وأصبحت مورداً لحياة أهلها في سورية عبر إمدادها لهم بقليل من المال. كانت تستاء من أمها ومطاردة أمل إنقاذ الوالد، لكنها في آخر الرواية عادت وطلبت من أمها أن تستمر بالبحث عنه. انتصرت إنسانية راوية، كما انتصرت إنسانية كل الشباب السوري الثائر عندما خرجوا ضد القهر والظلم والاستبداد والفساد لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، خرجوا وهم يعرفون أنهم قد يدفعون حياتهم ثمنا لذلك وقد دفعوا، وأنهم قد يطردون من البلاد ويدفعوا للجوء الى بلاد أخرى، وحصل ذلك أيضا…

 إنه الشعب السوري العظيم.

لغة الرواية جزلة جميلة واضحة تنفذ لأعماق النفس بكل سلاسة وتكمل الصورة براحة، وتجعلنا نقرأ ما وراء النص، وكأننا نطلّ على شمس الصباح تنير الدنيا وتسطع بالحقيقة وإن كانت قاسية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم