د.رحمة الله أوريسي/الجزائر يخرج الروائي "محمد جعفر" في روايته "لابوانت جدوا قاتلي" عن الأسلوب التقليدي النمطي السردي في عرض أحداث قصته، فلا يمكنك معرفة الاستباق من الاسترجاع، ولا الحقيقة من المجاز، ولا الواقع من الحلم داخل هذا السرد إلاّ إذا أمعنا النظر فيه، وركزنا في تفاصيل هذا المتن الحكائي؛حيث أنه ينتقل بكلمات وحروف دقيقة من حقبة زمنية إلى أخرى، ويقحمك في الحلم وهو ما زال يسرد الواقع، الأمر الذي يجعلك في لحظة ما من الشرود لا تفهم تفاصيل القصة، وكأنها محاولة ذكية من الكاتب تفرض عليك الانتباه، والتركيز فيما سيعرضه. ولعل هذه المزاوجة حد التطابق هي التي تجعلنا نقر بأن هذا النص حداثيّ من حيث بنيته السردية. وقد حاول الكاتب أن يكون خارج كل هذه الأحداث من حيث تباينه الحكائي؛ فالراوي يسرد حكاية غيره بلسانه، ولكننا أثناء قراءة هذا السرد نقع في حيرة، فعلى الرغم من أن الروائي يسرد حكاية غيره ويعرف كل تفاصيلها، إلاّ أنه يشعرنا وهو يسرد بأنه جاهل بجميع حيثياتها؛ فالكاتب اختزل لنا في بضع صفحات مكثفة حكاية الوطن/الجزائر بكل تناقضاته؛ بداء من مخلفات الاستعمار المأساوية على الشعب بعد الاستقلال من جهة؛ والترسبات السياسية التي ترسخت مع الزمن في الحكم فيما بعد من جهة أخرى، من خلال شخصية "علي هادف" أو "موحا بلحضري" أو "الجنرال"، ولعل كل اسم من هذه الأسماء هو رمز في حد ذاته بل يمثل حقبة زمنية بعينها، فــ"علي هادف" هو المسمى الذي لقب به حين استعاد هويته الجزائرية، و "موحا بلحضري" هو الاسم الحقيقي له، أما كنية "الجنرال" فقد لقب بها حين كان ملاكما، كما أنها أخذت تبعيات سلبية أخرى من بينها أنها تختزل حكاية خيانته للوطن من جراء ما قاله من اعترافات تخص أسرار الوطن تحت الضغط والتعذيب. وقد حاول الكاتب أن يوجز كل ذلك من خلال عتبة نصية اختارها بوعي وبعناية فائقة صدّر بها روايته، حيث استحضر لنا اقتباسين روائيين تمثلا في مقولة من رواية «مخاوفي السبعة» لـلروائي سلافيدين أفيدتش والتي يقول فيها: «سأتخير على قدر الإمكان، من الألفاظ أكثرها دقة، فللألفاظ دور كبير في حفظ ترابط القصة. كما سيتعين عليّ التزام الصدق كلية، فبالرغم مما للأكاذيب من فتنة إلاّ أن تكلفتها فادحة» ثم نجده يردف مقولة أخرى لجورج أورويل «احذروا من تحيزي ومن أخطاء ارتكبتها حول الوقائع ورؤية زاوية واحدة من الحدث». وبالنظر في جملة هذين الاقتباسين سنجد بأن الكاتب اختزل رؤيته للبناء الخارجي لروايته من حيث أنه تقمص دور البطل، محاول إثارة انتباه المتلقي لما قد يحمله المتن من أحداث ووقائع قد تكون حقيقية. ولعلنا اكتشفنا ذلك بعد قراءة الرواية حيث استعان الروائي بالذاكرة التاريخية في عرض فترة زمنية صعبة مرت بها الجزائر بعد الاستعمار، فلم يقع في فخ التأريخ الذي قد يقع فيه الكثيرون؛ علما أنه استحضر تواريخ بعينها، وأحداث حقيقية مرت بها الجزائر أثناء وقبل وبعد الاستعمار، إلا أنّ تخصيصه لحكاية بعينها تخص بطله هي التي جعلت الرواية تأخذ الطابع التخييلي الاستعاري. وبالنظر في مضمون الرواية سنجد بأن الروائي حاول المزاوجة بين ثنائيات عدة كالخيانة، والوفاء/الشرف/ خيانة الوطن، وبين الخير/ والشر..إلخ، الحب الذات/الكراهية من خلال شخصية علي وهي في الأصل شخصية عايشت الاستعمار الفرنسي وعانت منه الويلات من خلال كل أنواع التعذيب والممارسات الموجعة التي تلقاها"نفسيا/وجسديا"حين تم القبض عليه، انطلاقا من هذا جسد لنا الكاتب في كفتين متوازيتين رؤية الناس الظاهرية لهذه الشخصية من جهة، وانحيازه لها، ورؤيته الموضوعية للأمور من الداخل والخارج من جهة أخرى بحكم أنه راوٍ عليم، فحاول أن يبين-من خلال هذه الرواية- تأثير الناس في تغيير سلوكيات الفرد من الخير إلى الشر، ومن الوفاء إلى الخيانة؛ فعلى الرغم من أن علي حاول بكل الطرق إثبات شرفه وعدم خيانته للوطن -من خلال بعض ما أدلى به تحت التعذيب للمستعمر بعد فقدانه للوعي، ولو كان أي شخص في مكانه، ومورست عليه أنواع التعذيب لقال أكثر مما قاله - إلاّ أن الزاوية التي وضعه فيها الناس هي الخيانة. ولعل هذا التصور بقي راسخا في الذاكرة التاريخية، فعلى الرغم من محاولاته التي نجح فيها في محو أرشيفه الذي يحمل كل اعترافاته ضد الوطن، والذي احتفظت به السلطات الفرنسية، إلاّ أنه لم يستطع أن يمسح العار الذي رسخ في ذاكرة البشر، وعلى الرغم من رغبته في عدم العيش في الماضي، ومحاولة صنع مستقبل شريف إلاّ أن الماضي وتأنيب الضمير ضلا يلاحقانه طيلة حياته، الأمر الذي جعله في الأخير يشهر سلاحه في وجهه الجميع حين انقلبوا ضده في مظاهرات شعبية، ويطلق النار عليهم، وكأن السيناريو يعيد نفسه؛ فتلك المخلّفات التي تركتها الذاكرة الفرنسية في ذهن الجزائري، لا يحييها إلاّ الناس، فكما فعلت فرنسا في حقبة زمنية عن طريق «رجال موريس بابون لما قتلوا الجزائريين عندما خرجوا لكسر حظر التجوال المفروض عليهم في باريس. قتلوهم وعذبوهم وأغرقوهم في نهر السين، وأرسلوا بعضهم إلى الجزائر على متن سفينة بائسة تسمى ربيبليكان أو الجمهورية»( ) شهر البطل علي سلاحه في وجه المتظاهرين الذين انقلبوا ضده، وهنا الكاتب استطاع أيضا رسم الواقع الذي نعيشه الآن،حيث تنبأ بالمظاهرات، والثورة على النظام الفاسد قبل حدوثها؛ فالرواية صدرت قبل الانقلاب، وقبل المظاهرات التي شارك فيها الشعب ضد الفساد، الذي سيطر على الوطن؛ فشخصية علي هي صورة حية لكل سياسي فاسد، بل يمكن أن نعتبرها صورة من النظام الفرنسي الذي حاول أن يرسخ سياسته، ويبث سمومه في كوادر الدولة من خلال مخلفاته التي جعلها رواسب راسخة في عمق ذاكرة الفرد الجزائري . وهنا نفهم بأن الكاتب على الرغم من أنه حاول سرد وقائع بعينها عن طريق سرد استعاري خيالي مستوحى من الواقع الحقيقي لفترة حية مرت بها الجزائر، إلاّ أنه حاول أن يقر خلف تفاصيل هذا السرد بأن التبعيات تستمر إلى ما وراء ذلك، وأنّ الناس لا يفسحون المجال للشخص –مهما كانت مبررات الخطأ-أن يتغير، ولعل هذا السيناريو يجعلنا نقر بأن الكاتب يدين المجتمع بطريقة ما ويدين نفسه باعتبار أنه واحد منه، بأن حال الجزائر، والوضع الذي وصلنا إليه الآن هو من جراء الحكم على الظاهر، لا النظر إلى حقيقة الأسباب. انطلقا من هذا نخلص بأن هناك شراكة بين ما وظفه الكاتب في الاقتباس وبين المتن؛ أي هناك علاقة وطيدة توحي بأن الاقتباس الذي صدّر به الروائي روايته ما هو إلاّ خلاصة للمتن الحكائي.

*خاص بالرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم