كه يلان مُحمَد يتطلبُ تأسيسُ مساحات الإختلاف والتجديد في كتابة الرواية وعياً مُسبقاً بما يسودُ في الوسط الأدبي من النصوص التي تعكسُ مستوى ما وصل إليه الحس الفني لدى الروائي من جهة كما يمكنُ المُتابع من تحديد الذائقة المهمينة لدى القاريء من جهة ثانية وبناءً على هذه المُعاينة ينطلقُ الكاتب الروائي لإرساء مداميك مشروعه المُغاير يتتبعُ الروائي التونسي كمال الرياحي المشهد الأدبي بإطاره الأوسع مستوعباً لخصوصيات المنجز الروائي العربي وتمثلات الوقائع السياسية والإجتماعية في مضمونه وما يُصاحبُ ذلك من التحولات في شكل النص وصياغته رافداً ذلك بمتابعته لموجة جديدة في التناول الروائي الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً وأضاف كل ذلك إلى مختبرهِ السردي من حيث صناعة الأدوات والتفاعل مع المُعطيات البصرية والوسائط المُتعددة ومايمورُ به الواقعُ من مظاهر التوحش الناجم من إنفلات العنف ومن الواضح بأنَّ التلذذ بمشاهد مغرقة في القسوة والوحشية أصبحَ لوناً من الترفيه يكرسه الأعلام بشقيه التقليدي والبديل.والحال هذه فإنَّ كمال الرياحي يريدُ تغطية هذا المُناخ الموبوء بالفحش واللامعقول في روايته الجديدة(البيريتا يكسبُ دائما) منشورات المتوسط ميلانو إذ أدرك صاحب (عشيقات النذل) منذ نصوصه الأولى بأنَّ الثيمات المُستهلكة لم تُعدْ خياراً مُناسباً لتعرية الواقع من قشوره المُزيفة كما لايمكنُ المراهنةَ على مفهوم الثنائية الضدية بإعتباره مُحركاً أساسياً للسردأو مصدراً لتوليد الشُحنات الدرامية. أدوار مُتناقضة تغيبُ تقنية التقابل في تشكيلة وحدات النص وبذلك يضربُ الكاتبُ بأفق إنتظار المُتلقي عرض الحائط.عندما يضعهُ أمام شبكة من شخصيات متورطة في مجاهل الإجرام والعنف والخيانة. لايستدرُ نص البيريتا العواطفَ بقدرِ ما يجعلُ القاريء مُتسمراً حين تتوالي عليه المَقاطعُ النابضة بالحركة والتوتر والتقلب في المواقف لعلَّ من أهمها هو حيثيات الواقعة التي يستعيدها ضابط الشرطة (علي كلاب) عبر فلاش باك بينما يقودُ الأخير سيارته الفورد عند حدود التونس والجزائرية عائداً عبر البر إلى تونس يصادف شاباً نحيفاً يبع الخبز يعرضُ عليه مسدساً مقابل أربعمئة دينار ملوحاً بإيماءات عدوانية غير أنَّ الوضع يتبدلُ حين يدفع الضابط غريمه بباب السيارة ويأخذُ زمام المبادرة ومن ثمَّ يرغم خصمه على أكل الثعبان الميت ملفوفا بالخبز الذي يعرضه للبيع حتي يتسمم ويموت وفي طريق عودته لايصحبه سوى مسدس البيريتا الذي يظهرُ شبح نظرات صاحبه الميت بين ماسحات الزجاج.على هذا الإيقاع التصعيدي يُديرُ الرياحي مكونات سرديته حيثُ تتشابك الوقائع وترى الشخصيات مُتلبسة أدواراً مُتناقضة مُتأرجحة بين الإحتمالات المجهولة . يزيدُ إنشطار الزمن من غموض المادة المروية ويتمددُ المكان خارج البيئة المؤطرة للحوادث مُنفتحاً على الفضاءات الإفتراضية مايعني تداخل النص مع أشكال تعبيرية وتواصلية غير تقليدية وهذا ما يُصبحُ مثاباتٍ لخطاباتٍ متنوعة مع إنطلاق آلة السرد التي تُدخلك إلى أجواء درامية عنيفة حيثُ يقتحمُ أفرادُ من الشرطة مرتدين بدلات سوداء وقمصان بيضاء يتبعهم الضابطُ ومن ثُمَّ يبدأُ الإستجوابُ وتدلي مديموازل بيه بشهادتها أمام علي كلاب والموضوع الذي يدورُ حوله الحديثُ هو كومة العظام المدفونة في أحواض شرفة الجيران.ولايتمُ فك شفرة هذا اللغز إلا مع تعاقب الحلقات السردية. يُذكر أنَّ بذور الرواية دفينة في الصحفات الأولى على غرار مايعمله ساراماغو في أعماله خصوصا في (الكهف)و(مسيرة الفيل) إذ أن مايُتابعهُ القاريءُ في الفقرات اللاحقة عبارة عن التفصيل الذي يُمكنهُ من تفكيك الطلاسم الكامنة في بداية النص.والمُلفت في هذا السياق هو الصخب في الأصوات المتوزعة بين الصيغة الحوارية والمولونوج والكلام المُسجل على الهاتف الجوال واليوميات المكتوبة إذ تلقي هذه الموادُ بثقلها على الحيز السردي. مؤشرات تناصية لايأتي هذا التنوع في الصياغات إعتباطاً فالحوارُ يوفرُ فسحة لمراقبة تطور الأحداث وإدراك مستوى الشخصيات من خلال ملفوظاتها كما يكونُ أداةً لفضحُ ماهو مُتسترُ في العلاقات القائمة بين شخصيات عائمة في العمل.بينما يبدوُ في الظاهر أنَّ متعاوني (على كلاب) لايحيدون عن خطه فإنَّ الحوار المُتبادل بين هؤلاء يكشفُ كراهيتهم لصاحب (البيريتا) والأهمُ من ذلك يفهم مما يرشحُ من الحديث أن سيدهم قد عاد إلى مهنته من جديد.وهنا يوميءُ الرياحي إلى واقع الثورة التونسية مع إستدعاء إرهاصاتها المُتمثلة بصعود رجل إلى الساعة القائمة في قلب العاصمة.وهكذا تتبلورُ مؤشرات تناصية بين (البيريتا يكسب دائما) و(الغوريلا) حيثُ يكتملُ فصل آخر من ملابسات واقعة الساعة ومصير الرجل الذي تعلق ببرجها.فالشخصية التي يُعهد إليها المؤلفُ وظيفة توضحية في نصه الجديد هي المرأة التي تبلغُ الشرطة عن كومة العظام المريبة في شقة مجاورة لمكان إقامتها.إذ يتذكرُ الأعوانُ الخدمة التي قدمتها ل(علي كلاب) وتهمتها المفبركة ضد الشاب المُلقب بالملاكم الأسترالي مقابل إطلاق سراحها وكتمَان سرها لأنَّ بية قد ضبطت ملتبسةً في علاقة حميمية مع عشيقها وبذلك تُحطم مستقبل السجين لاينتهي التناصُ عند حدود التفاعل مع الأعمال الأخرى للكاتب بل إنَّ إطلاق عملية قتل الكلاب التي تفوق فيها ضابط الشرطة يُحيلُ إلى ما رواهُ ميلان كونديرا عن مجازر مُنظمة للكلاب في تشيكوسلوفاكيا قبل شن حملية إرهابية ضد الجماهير.كأنَّ كمال الرياحي يوافق صاحب (حفلة التفاهة) بأنَّ هذا الحدث الذي يهمله المؤرخُ والمُحلل السياسي له دلالة أنثروبولوجية.لايجوزُ أن يتغافل عنها الروائي إذا أراد مُعالجة الواقع من زاوية أخرى زيادة على ذلك فإنَّ العقلاقات الحسية المستهترة بين يوسف غربال المؤلف وصديقة زوجته ماري من جهة والتواصل الجسدي بين ملاك المساكن ليوسف مع زوجة الأخير من جهة أخرى وما يتناثر على جسد النص من العبارات الطافحة بمدلولات جنسية وهي تأتي مُتجاورة مع الغريزة العدوانية تُذكرك بمرويات داعرة لبوكوفسكي لاسيما "أجمل نساء المدينة" وأجواء متشبعة بالفحش والعدوانية لسرديات "بوريس فيان" وسادية مجونة لماركيز دوساد الذي مررَ الكاتبُ بعض عباراته الإباحية في نصه كما أن طيفَ بوروز وأعمال ماركيز دوساد يطوفُ في فضاء الرواية إذ يستدعي مايقومُ به ضابط الشرطة من تصويب ماسورة مسدسه إلى التفاح الموجود على رأس زوجته لحظة مقتل مؤلف (المدمن) لشريكة حياته.ومايضاعفُ من النزعة السوريالية هو صرف كاميرا الراوي لرصد العملية الجنسية بنسختها الحيوانية. لعبة قرين تحضرُ الخلفية المعرفية لكمال الرياحي في تضاعيف عمله الروائي إذ يضمنُ نتفاً من سيرة كاتبه الأثير ديفيد والاس في تياره السردي ولايفتأُ يوسف غربال يتحاورُ مع شبح الكاتب المُنتحر وعشيقته كاثرين بل تتبدي حياة شخصية غربال إمتداداً لما عاشهُ صاحب (مداعبة لامُتناهية) من الكوابيس الخانقة ناهيك عن معاناة الإثنين على المستوى العاطفي والشك الذي يحوم حول كل من جوناثان وملاك فالأول صديق لوالاس أما الثاني فهو مساكن ليوسف حيث يؤرقُ الأخيرَ بتلصصه على علاقته الغريزية مع ماري.وجه آخر من التقاطع بين شخصيتين هو رغبة الإنتحار التي تراودُ يوسف ب(البيريتا) الذي تسلل إلى أكداس الصحف وهي ما احتفظ به نظراً لمحتوياتها الخبرية المتعلقة بحادث إنتحار والاس والأغرب في هذا الإطار أن البيريتا كان وراء اغتيال السياسي اليساري التونسي شكري بلعيد الذي دارات الشبهات منذ اغتياله حول تورط الاسلاميين واليساريين والمخابرات الدولية وحتي زوجته.وتصطفُ شخصيات أخرى راحت ضحية لعملية الإغتيال بجانب بلعيد ولايفقدُ الرياحي وسط هذه القتامة حسهُ الساخر عندما يتناولُ أمر الجوائز الأدبية حيثُ يقنع الفلسطينى المقيم بالسويد صديقه السوداني بتأليف كتاب بعنوان (يوميات نجل الجانجاويد) إذا أراد حيازة نوبل والمعنى أن الضحية أصبحت علامة تسويقية عطفاً على كل ماسلف ذكره فإنَّ طريقة كتابة هذا العمل مُتفاعلة مع المواد الفيلمية خصوصا فيلم الطير لهيتشكوك ولكن البطلَ في رواية كمال الرياحي إضافة إلى الطيور النافقة وحمائم الرجل المُقعد أمام باب الجامع هو البيريتا. انها سيرة مسدس ملعون وصل صدفة إلى يد علي كلاب لينفذ العديد من الجرائم والاغتيال ويتداول من أيدٍ مطيحا برؤوس شتى في موقع شتى. راسمة رواية سوداء تجعل الجنس أدوات لقول السياسي والثقافي وتسجل عودة السيستام/النظام القديم إلى تونس الثائرة. فهل هي إنذار في صيغة إبداعية أم وصفا لواقع حقيقي قوض مباديء الثورة باستعادة أكثر رموزها شراسة :علي كلاب؟ قصارى القول فإنَّ مايحوكه الرياحي هو من طينة نصوص هؤلاء الذين يعتقدون بأن ما يلهم بِمُغامرة الكتابة هو عالم مغموس بالشر لاتتحركُ شخصياته إلابدافع شبقي.ماتتأكد منه وأنت تنتهي من قراءة هذا العمل هو أن كل شيء وأي شيء يصلح أن يكون مادة مناسبة للرواية على حد قول فرجينيا وولف

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم