كه يلان مُحَمَد

إنَّ الغموض والتعقيد والحفر في سجلات الماضي والتوهان في دهاليز الأزمنة الغابرة ونفض الغبار عن طبقات الذاكرة من موضوعات مُفَضلة بالنسبة للكاتب الفرنسي (باتريك موديانو). إذ يميلُ صاحب (أقاصي النسيان) إلي تحبيك حلقات مادته الروائية من خلال شبكة من شخصيات تتسلل إلي فضاء السرد، وتأتي الإشارة إلي كل شخصية جديدة بهدف توفير مزيد من العناصر التي تُعينُ المتلقي في بلورة تصورِ عن جملة أو مشهد سبقَ وأن مر عليه ولم يفهمْ دلالتهُ، لذا كلما يمضي القاريء قُدماً مع (باتريك موديانو) يتفهم أكثر بأنَّ كل ما يردُ من أسماء الأمكنة والشخصيات والصور المتوزعة في تضاريس أعماله يُبني لدي هذا الكاتبُ ما يُسميه أحدُ النُقاد بسحر غير قابل لتحديد، ومن هنا يَتَخِذُ أُسلوب موديانو طابعاً خاصاً يختبرُ إدراك القاريء أحياناً علي مُختلف المستويات، ما يكون لغزاً في رواية (مستودع الطفولة) منشورات الإختلاف الجزائر بالاشتراك مع منشورات ضفاف بيروت 2016 هو البُنية المكانية، إذ أن مدينة باريس هي مسرحُ لايغادرها مؤلف (دفتر العائلة) في رواياته وقد تزاحم عاصمة النور بعض المدن الفرنسية الأخري مثل نيس في (آحاد أُغسطس) غير أن ذلك لايُبعدُ بالعملِ عن أجواء باريس وفنادقها وشوارعها، إلي أن يخطو موديانو في (مستودع الطفولة) أبعدَ من باريس، إذ يقيمُ جيمي سارانو كاتب مسلسل مغامرات لويس السابع عشر في مدينة غير مُعينة بالإسم لكن الكاتب يصرُ علي إيراد عناوين الشوارع وأماكن الإقامة في مضامين روايته، كما يُمكنُ أن يُفهم من سياق بعض العبارات تحديد هوية المدينة التي تدورُ فيها الأحداثُ لاسيما عندما يتوقع كاتب المسلسل الإذاعي الذي تُوكلُ إليه وظيفة السرد أيضاً، وجود مُستمعين لعمله في مدينة تطوان ، جبل طارق أو الجزيرة الخضراء فضلاً عن ذلك يموه الراوي هويته معتقداً بأن لا أحد يربط بين الشخص الذي نشر الروايات في باريس وكاتب أندلسي، هذا كل ما يقدمهُ المؤلف في بداية عَمَله، كأنَّ الكاتب أراد بهذا الإبهام أنْ يُشرِكَ المُتلقي عملية إحتمال البعد المَكاني. مكان مُفترض يري مترجم (مستودع الطفولة) نجيب مُبارك، أنَّ مدينة طنجة الساحلية هي ماتُصبح حاضنة مكانية لأحداث الرواية، ويستخلصُ هذا الإفتراض من مواصفات جغرافية وتاريخية ذكرت علي لسان الراوي فالأخيرُ يعملُ في راديو مودنيال التي تشبه حسب رأي المترجم إحدي محطات إذاعية كان موجودةً بطنجة خلال الحرب العالمية الثانية، لكن وفقاً للتواريخ المذكورة في متن النص، أن الزمن الذي يُسرد الراوي وقائعه هو ثمانينات القرن الفائت، هكذا يتحولُ تشكيلة المكان إلي أحجية في الرواية، لعلَّ مايَّشدُ الإنتباه في هذا الإطار هو الإشارة إلي صوت الآذان أكثر من مرة خصوصاً في الحوار الدائر بين الراوي وكارلوس سيرفون، ومن المعلوم بأنَّ الآذان علامة دينية وزمنية في الوقت نفسه، تأتيُ هذه الإحالة إلي الحقل الديني بالتساوق مع ذكر مدن أُخري (القاهرة، لندن، مدريد). كما أن الأجواء الكرنفالية التي تسودُ في تلك المدينة غير المصرحة بإسمها تكشفُ لك عن طابعها الكوزموبولوتي مايرجحُ رأي نجيب مبارك هو تمليح الراوي بأنَّ المكان الذي يُوصف بـ(الثغر) نال شهرته من الشخصيات العالمية التي أقامت فيه. بالطبع أن طنجة قد إستقطبت كتاباً عالميين أمثال جان جنيه ، ويليام بوروز، جاك كيرواك، نيل كاسِدي، غريغوري كورسو و علي رغمِ إهتمام الراوي بتصوير مكان إقامته علي المستوي الجِغرافي وإبراز مكوناته غير أن ذلك لا يكون بديلا لباريس ولايُقصي ذكريات باريس بوصفها مرتع الطفولة والصبا إلي زوايا مُعَتَمَة، بل يطوف بك الكاتبُ المُختبيء في جلباب السارد في أجواء باريسية بإمتياز، إذ يذكرُ أسماء الشوارع والمقاهي والفنادق والمعالم الثقافية لعاصمة فرنسا. ويتحطمُ السدُ أمام سيل الذكريات بمجرد رؤية جون مورينو المتنكر توراء إسم جميمي سارانو لفتاة تعودُ به إلي مستودع الطفولة. طيف توجدُ لدي الروائيين المُتميزين فكرةُ مركزية تنظمُ خيطَ أعمالهم، ولايؤثرُ إختلاف التقنية ولا شكل هيكل الرواية علي هذا العنصر الثابت، وبذلك نكون أمام معادلة ثبوت الفكرة وتحول الأساليب في بناء الرواية، ويبدوُ أنَّ مؤلف (دفاتر العائلة) يؤثثُ أركانَ أعماله الروائية وفقاً لهذا المنهج، إذ يتباين المبني الحكائي والصيغ في معالجة النتيجة الأساسية المتمثلة في الذاكرة وإستعادة وجوه قد تعرف عليها الراوي في زمن قد مضي، أو تجمعه بها صلة القرابة، من الواضح أنَّ موديانو يعتمدُ علي تقنية الصور أو مُستمسكات محددة لتجسير الهوة بين الشخصية الأساسية والأزمنة المُنقضية، في رواية (شارع الحوانيت المُعتمة) و(آحاد أغسطس) و(حتي لاتتيه في الحي) حيثُ أن بعض الشخصيات ليس لها وجود فعلي بقدر ماهي قائمة في الصور أو مذكورة أسماؤها في دليل الهواتف بينما تكون الشخصيةُ التي هي بمثابة معبرٍ بين الراوي والزمن الماضي تحضرُ في ترسيمة العمل، إذ تصبحُ ماري محوراً في رواية (مستودع الطفولة). فهي تشتغلُ في محل الخطوط الجوية سيسنيروس وما أن تقع عليها عين الراوي من خلال واجهة المحل حتي يتذكرُ تجربته في مدينة باريس مع المرأة التي تُدعي ماري روز وهي ممثلة مسرحية، ومن ثُم يبوحُ الراوي بأنَّه قد حاول توثيق علاقته مع هذه الممثلة التي تبدو جذابةً ومثيرة من خلال طفلتها الصغيرة إذ يتعهدُ بها، أن التقارب في الملامح بين ماري الموظفة في محل سيسنيروس والممثلة المسرحية يفتحُ الباب أمام فرضيات تدفع بالراوي للتقصي عن هوية تلك الشخصية ومعرفة الدوافع وراء وجودها بالمدينة الساحلية، حيثُ يصلُ إلي الفندق الذي تقيمُ فيه ويستفسرُ عن الفتاة الفرنسية في مكتب الإستقبال ويسددُ القروض المتراكمة عليها مؤكداً لموظف الإستقبال بأنّه عم ماري، هكذا تتوزعُ إنشغالات الراوي بين تحضير حلقات المسلسل الإذاعي ومتابعة ماري التي تظهر مثل طيف في المقهي ومسبح ناديسبروكسس مع عيشقها الأنجليزي حتي عندما تباغتُ الراوي في شقته الواقعة بشارع فيلادو لاتّخرجُ من طبيعتها الطيفية إذ المشهد الحميمي الذي يجمع بين الإثنين أشبه بلوحة تشكيلية وذلك من خلال ذكر عناصر الخلفية المكونة من الضوء الخافت وبعض التفاصيل الأُخري. استجواب يراقبُ الراوي الشخص الذي يسميه بالحشرة وهو مقيم بشقة مقابلة لشقته، إذ يجدُ من يتحاور معه إلي أن يستنتجَ بأنّ هذا الكاتب المغمور أعيد اكتشافه في باريس وأصبح موضة علي حد قول الصحافي الذي يلتقي بـ (جيمي سارانو) في شاطيء فندق سندباد، لاتأتي أي فقرةٍ أو جملة في روايات (موديانو) حشواً، بل يرتبُ مروياتهِ بما يخدم الفكرة الأساسية من هنا لايكون اللقاء بين الراوي والصحافي إلا حلقة أخري ترسخُ صلة كاتب المسلسلات الإذاعية بماضيه، إذ يفاجئه الصحافي بمعرفة إسمه الحقيقي (جون مورينو) كما يسأله عن ليلة الحادث، وبهذا ينتظمُ ما يشيرُ إليه الراوي عمايراه في الحلم من إغراق سيارة في نهر المارن ليلاً وما يذكره في وحدة لاحقة عن مرافقته للسائق ماكديبورغ إلي باريس في خط واحد، حيث يستعيدُ تفاصيل تلك الرحلة. بما فيها وجود الطفلة التي تحمل سلة الفاكهة ويعتقدُ الراوي بأنَّ ماري ليست إلا تلك الطفلة ومن هنا تتضحُ دلالة مقولة الراوي (سنجدُ أولئك الذين نبحثُ عنهم إذا كانوا أحياءً في مكان ما). إذا كان عمل يتضمنُ رسالةً فإنَّ رسالة روايات (موديانو) تتمثل في أنَّ كل ما تمر به من الأشياء والوجوه والأمكنة تستثير الذاكرة.

المصدر / أخبار الأدب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم