قَدَرُ كلّ روايةٍ، من جِهةِ ما هي كيانٌ فنيٌّ ينفعِلُ ويفعَلُ، هو أن ترمي بسهمٍ في قضايا زمنها، ولكنْ أيُّ قضايا هي جديرةٌ بأنْ تُرْوى؟ ما من شكٍّ في أنّ ما ترومُ الروايةُ قولَه هو ما لا يقوله الناسُ، أعني ذاك الذي يقع في حيِّزِ العَتَمَة ويأكل المجتمعَ من الدّاخل بنارٍ لا دخانَ لها ظاهرا. وإنه ليجوز القول إنّ الرواية إنّما هي من باقي فنون الكتابة الأدبيّة فنٌّ نَشِطٌ وحيَويٌّ وجريءٌ، وهي الأدْخَلُ من تلك الفنون في مجال طِبّ المُضْمَراتِ الاجتماعيّة‘ حيث تتنبّه إلى ظاهرات معيش مجتمعها، وتكشف عن أسبابها، وتُعايِن تجليّات عنفِها على الجسدِ العامِّ أو الخاصِّ، وتُوحي عبر كلّ ذلك بمسالك تجاوزها. ومن ثَمَّ يكون الروائيّون أنْجَعَ أطبّاءِ مجتمعاتهم: مِبْضَعُهم اللغةُ ووَصْفَتُهم التخييلُ. وإني واجدٌ روايةَ «حابي» لطالب الرفاعي (دار ذات السلاسل، الكويت 2019) تتحرّك في هذا المضمار، راسمة لقارئِها مِحْنةَ جسدٍ واقعٍ تحت سياطِ عُنْفَيْن متضافريْن: عُنفِ الفيزيولوجيا، وعنفِ الواقعِ، وهو إذْ يحاول فيها التحرُّرَ من هذيْن العُنفَيْن لم ينسَ أن يكتبَ حكايةَ ألمِه.

حكايةٌ أخرى

قد يُفيدني قول ابن عربي: «الخيالُ لا يُعطي أبدا إلاّ المحسوساتِ، غيرُ ذلك ليس له» في تأكيد حقيقةِ أنّ رواية «حابي» إنّما هي رواية بنتُ وقتِها، ومنغمسةٌ بروحها في بيئتها الاجتماعيّة الكويتيّة انغماسا متيَقِّظا لِمَا يمور فيها من قلقٍ أخلاقيٍّ خفيٍّ حول قيمةِ الجسد وعلائق الناس به، وما التخييلُ فيها، وَفْقَ تقديري الشخصيّ، إلاّ تلك القدرةُ الذّهنيّةُ على التنبّهِ لذاك القلق مع جُرأةِ تدبيرِ مَشَاهدِه عبر جمعِ شتاتِ مظاهره الاجتماعيّة، وصوغِها في حكايةٍ ذاتِ بنية فنيّة ضامنة لوحدة معناها وحُسنِ تلقّيها. وإنّ من صُورِ جرأةِ رواية «حابي» ما تجلّى في انصباب جهدِها الأدبيِّ على موضوع «التحوّل الجنسيّ» الذي لم يزل بعدُ ساكنا عَتَمةَ المسكوت عنه في المجتمع العربيّ، وعلى كتابةِ وجع ِالجسد وهو يُشوَّه ويُعنَّف ويُفْتَكُّ ويُنْفى، فإذا هي، في كلّ ذلك، مغامرةٌ اجتماعيّةٌ مُصاغةٌ في مغامرةٍ فنيّةٍ، وأحسب أنّها قد حازت بهاتيْن المغامرتيْن معا قَصَبَ السَّبقِ إلى موضوعها. ولو حاولتُ اختصارَ أحداث رواية «حابي» لقلتُ إنّها روايةُ جسدٍ في اشتباكه مع ذاته ومع الآخرين، ويُحكى فيها عذابُ الشابّة «ريّان» التي كانت تشعر منذ طفولتها بشيءٍ فيها ذُكوريٍّ لا تعرفه ويُحيل عليه قولها: «كأنّ شيئا في داخلي كان يحرّك لهفتي المستورة نحو التقرّب من عالَم الأولاد». ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها وتأخّرَ مجيءُ عادتها الشهريّة على غرار ما يحدث لمَن هنّ في سنّها أبلغت والدتها بالأمر، فعرضتها على الأطباء في الكويت، وبعد تشخيص منهم دقيق لحالتها تأكّد لهم بأن جسد «ريّان» إنما هو جسدُ ذكرٍ مغموسٌ في إهاب أنثى نتيجةَ تشوُّهٍ فيزيولوجيّ، حيث خلا من رَحِمٍ ومَبِيضيْن (ص73)، ونتيجة لذلك نصحوها بضرورة تأصيل هُويتِها الذكوريّة لدى أطباء خارج الكويت. وعلى شدّة معارضة أخواتها وأبيها لمسألة تغيير هُويّتها الجنسيّة، قرّرت «ريّان» بدعمِ كلٍّ من والدتها وصديقتها «جوى» (الأمريكية من جهة والدتها) إجراءَ عمليات جراحية في مشفى «يانهي» ببانكوك، تمّ فيها إزالة الثديين وبقايا الجهاز الأنثوي، وصنع العضو الذكري، وتعديل مجرى البول، وبذلك صارت ذكرا دونما قدرةٍ على الإنجاب (أشير هنا إلى أنّ الثُّنائيّات المُتضادّة هي التي تحكم الأحداث في الرواية، وتُحيل فيها على تأرجحِ البطلِ على حبليْ الذكورة والأنوثة تأرجحا محفوفا بالخوف من السقوطِ). وحتى لا يُسبّب الشاب «ريّان» فضيحة اجتماعية لعائلته جرّاء تحوّله الجنسيّ قرّر السفر إلى أمريكا للاستقرار فيها صحبة صديقته «جوى» التي راح ميلُه العاطفيُّ إليها يتعاظم إلى حدّ تفكيره في الزواج بها.

هذا مختصَرُ مَحْكيِّ الرواية الصَّريحِ، وهو ما يمكن المجازفة بكتابته للتعريف العامِّ بها، كأنْ يكون خبرا عنها في صحيفة، ولكنّه مختصَرٌ يظلّ دوما دون القدرة على قولِ ما ترغب الروايةُ نفسُها في قوله، لأنّ كلَّ مختَصَرٍ إنّما هو أكبرُ عدوٍّ لموضوعِه: يُوقفُ حركتَه، ويُغيِّبُه، ويُغلِقُ أبوابَ معناه. وعليه وَجَبَ التأكيدُ هنا أنّ «حابي»، على غرار الروايات النّاضجة فنيّا، روايةُ حكايتيْن: واحدةٍ ترويها هي بلسانها وفيها تدبيرٌ فنيٌّ جميلٌ لتشابُك الذّات مع واقعها، ولانتفاضة الجسد على أعراف مجتمعه، وأخرى يحكيها القارئُ بلسانه، وهو ما يصعبُ معه مسكُ مَرْويِّها كلِّه واختصارُه إلاّ مُجازفة، ذلك أنّها ما إنْ تُقرأَ حتى تخرُجَ من «نصِّها» إلى ذهنِ قارئها؛ فتصيرُ فيه هاجِسا يُقِلِقُه قلقا لا يُشْفَى منه إلاّ متى أنشأ منها حكايتَه الشخصيّةَ: أيْ أنْ يروي حكايةَ قراءته لها. وفي ضوء هذا أقول إنّ ما وراءَ حكايةِ تغيير الهُويّة الجنسيّة لـ«ريّان» تُوجد حكايةٌ أخرى، هي حكاية مجتمعنا العربيّ وهو يسعى إلى الخروج من عُزلتِه الثقافية وتحقيق تحوّله الحضاريّ، أعني حكايةَ رغبتِه في التحرُّر من الهُويّة الناقصة في العالَم إلى الهُويّةِ الكاملة فيه. ذلك أنّ تقصِّي آفاقِ «حابي» الدَّلاليّةِ يُنبئُ بأنّ التشوُّهَ الخِلقيَّ لجسد «ريّان» ليس إلاّ كناية عن تشوّهات ثقافيّة يرزح تحت وَطْأتِها جسدُ مجتمعِ الرواية على غرار الملكيّةِ العموميّة للجسد الشخصيّ، وسُلطة الذّكورة، ناهيك عن غلبة المنفعة الشخصية على العلاقات الأسرية. وسأكتفي، بسبب ضاغطة النشر، بقراءة ثيمة الجسد دون غيرها من ثيمات هذه الرواية.

محنةُ الجسد

تُظهرُ رواية «حابي» شيئا من المَكرِ الفنيِّ وتُخفي كثيرَه، وكلُّ مكرٍ إنّما هو في النهاية جودةُ تخييلٍ، فهي تُحدّثني عن «الشّابة» ريّان وتعني بها «الشّاب» ريّان، وتصف لي عذابَ هُويّتها الموجودة في الحكاية وتُحرِّضُني على تخيّل سعادةِ هُويّتها المنشودة في الواقع؛ فإذا الضمير «هي» في نِظامِ اللغة يعني الضميرَ «هو« في نظامِ الذّهنِ، وكلّما اشتدّت حيرتي حول تأنيث «ريّان» أو تذكيرِها، ومالت قراءتي إلى اعتبار «حابي» رواية تنتصر للجسد وهو يتحرّر ويكشف دون خوفٍ عن تشوُّهه في مرآة ذاته وفي مرايا الآخرين، إلاّ وعادت الرواية تُدْمج الضميريْن في كينونة واحدة: هي كينونة الكتابة ذاتِها من حيث ما هي فعاليةٌ لغويّةٌ تخلُق الأجسادَ (كلُّ شيءٍ في اللغة جسدٌ)، وتُحَوِّلُها، وتُغرِقُها في المحنة كما تشتهي، وتُنقِذُها منها متى شاءت، وبذلك تُفقِدُني -أنا القارئ- توازُني الثقافيَّ والأخلاقيَّ والجماليَّ، وتُثيرُ فيَّ إحساسا بقصور تصوّراتي عن الجسد حين يتجاوز مفهوميْ الأنوثة والذكورة صوب مفهوم الإنسانِ بإطلاقٍ: إنسان يصارع واقعَه من أجل حرّيته وإرادته وسموِّه مهما كان نوع جنسِه. ومن مكر الرواية بي أنّها عرفت كيف تُرغّبني في التعاطف مع محنةِ الجسد عبر ترهيبها لي منه، وهذا بعضٌ من قوّتِها الفنيّةِ أيضا، حيث جعلت جسد «ريّان» يتحرّك فيها بين فضاءيْن: شخصيٍّ، واجتماعيٍّ. وفي كليهما أجده يحضر حضورَ شيءٍ لم تختره البطلة وإنّما اُبتُلِيَتْ به، إنه شيءٌ أبْكَمُ، يُؤلِمُ ولا يتألّمُ، كأنّما كلّ غايته في هذا الوجود هي أن يكون ضدَّ غاية البطلة نفسِها فيه: أيْ أنْ يكون فاعلَ تيئيسٍ لها وتنكيدٍ عليها. ومن صور ذلك أنّ جسدَها، في بُعدِه الشخصيِّ، لا يزيد عن كونه كتلة لحميّة تسكُنُ فيها ذاتُها مع وعيٍ لديها حادٍّ بأنه لا ينتمي إليها: هو بالنسبة إليها جسدٌ آخرُ، بل قُلْ هو حيِّزُ اغترابٍ وضَياعٍ: اغترابها عن أحوالِ كلّ مَن هنّ في سِنِّها، وضياع ذاتِها بين هُويّتيْن جنسيّتيْن.

وهذا الاغتراب، وهذا الضياعُ، هما معا سببُ أزمتها التي حَفَزَتْها لأنْ تسعى أوّلا إلى أنْ تنفي انتماءَها إلى هذا الجسد المُشوَّه بأعضاء الأنوثة، وهو ما أجِدُ له إشارة في قولها: «كرهت كوني فتاة بجسمي وطولي وملامحي» ، وأن تسعى ثانيا إلى أنْ تُخرِجَ إلى العلن جسدَها الذَّكَرِيَّ المُتخفِّيَ فيها والذي ظلّ يَخِزُها بارتباك ذُكورته كلما رأى أنثى: «لكن متعة غريبة ظلّت تمسّني لحظة تتعثّر عيناي بلمعة مخبّأة من جسد فتاة»، و«أحس به من حولي؛ ما يشبه خيالا عطشا غافيا تحت جلدي، لكنه يتلمظ مع حركات الراقصات. يستيقظ لحظةَ تُطلق البنات والنساء جنونَ أجسادهن المكشوفة، فتتوه عيناي وأبقى خانسة أستلذُّ برجفة غريبة تستبيحني». وبمثل هذا الإحساس تؤكِّدُ الرواية حقيقةَ أنّ جسدَ بطلتها ريّانَ ليس هو ريّانَ نفسَها، إنه جسد أنثويّ يخفي خيالَ جسدِ ذَكَرِيّ مظلومٍ تشعر بفَحِيحِ مَرَاغبِه وشهواتِه وهي تفيضُ فيها، وهذا هو ما مثّل بالنسبة إليها عبئا نفسيّا أثقَلَ عليها وجودَها بين النّاسِ، ولم يُبقِ لها من حلّ للتحرّر من جسدها المُشوَّه إلاّ أنْ تفصله عنها أو أنْ تنسلَّ منه: «عشتُ أيام السنة الماضية ولياليها لحظة بلحظة، أنتظر هذا اليوم، ربما هي المحطة الأهم في حياتي، أتخلص من ثديَيَّ، يرمي بهما الطبيبُ الجرّاحُ إلى سَلّة القمامة». وإنّي أكاد أسمع في هذا الشاهد صوتَ ريّان الذَّكَرِ يهمسُ لي، وهو يتخلّص من ثديَيْه، قائلا: «أنا لستُ جسدي الذي وُلدتُ به»، وأراه يُحوِّلُه إلى موضوع خارجيّ، أعني إلى موضوعٍ قابِلٍ للسؤال وللتأمُّل عن بُعدٍ على حدّ ما جاء في المُقْتَبَسُ التالي: «أكونُ وحدي في البيت، فأسرع أغلق باب الحمام، أقف عارية أمام المرآة أنظر إلى جسدي، …، كأني أطلب من جسدي أن ينطق؛ ليُعينني على معرفة نفسي؛ هل أنا فتاة أم ولد؟». وفي غليانِ هذه الحيرة التي ألمّت بالبطلة إزاءَ جنسِ جسدها لم تنسَ الرواية أن تُعِيرَ لهذا الجسد المظلومِ لسانا يتكلّم به ليقول للقارئ إنه ليس مسؤولا عن حالِه، وإنّ المجتمع هو الذي شوَّهه مرّتيْن: شوّهه خِلقة عبر عادة زواج الأقارب (أب ريّان هو ابن خالة والدتها: وشوَّهَه صورة من حيثُ طبيعةُ صِلة الناس به، فقد بدا في الروايةِ سجينَ أعرافِ محيطه الاجتماعي، وسجين تصوّرات الناس عنه، إذْ هو عندهم فاقدٌ لكلّ حريّةٍ شخصيّة، ولا يزيد عن كونه ملكيّة عامّة، يستحوذون عليه بالترهيب ويُصرِّفون أحوالَه دون مشيئته، ومتى ما سعى إلى التمرّد على حاله وتصحيح تشوُّهاته، حوّلوا سعيَه إلى فضيحة، واعتبروه مسخا على حدّ قول الأب: «لا أريد مسخا في بيتي»، بل هم يتمنّون موته مثل ما تمنّت نورة لريّان: «لو أخذك الموتُ كان أستر»، وإذّاك تنتقل عدوى محنةِ الجسد المشوَّه إلى الجسد المُتَحوِّل، وكأنّ الجسدَ العربيَّ منذورٌ لأنْ يحيا في أَتُون عذابه، فإذا ريّان يعيش بجسده الجديد محنتيْن أخْرَيَيْن: محنة أولى يطغى فيها شعورُه بكونه مُطارَدا ومرفوضا من قِبَلِ أغلب أفراد أسرته ومحيطه الاجتماعيّ وَفْقَ ما عبّر عنه بقوله إلى صديقته جوى: «أبي تبرأ مني، وطردني من بيته، ونورة وزوجها طرداني من الكويت، وتعرفين مواقف أخواتي وعمّتي»، ناهيك عن شعوره بعدم اكتمال الذكورة فيه (عدم القدرة على الإنجاب)، ولعلّ في تسميةِ صديقتِه جوى له بـ«حابي» ما يُناسِبُ حالَه الجديدةَ، فهذا الاسم يعود إلى الإله الفرعوني الذي «يُظهر جسدُه معالمَ الجنس الأنثويّ والذكريّ في الوقت نفسه»، وهي حالٌ أرى أنها قد جعلت من قَدَرِ الشابِّ «ريّان» أنْ يظلّ معلّقا بين الأنوثة والذكورة، أي بلا هُويّة جنسيّة، أيْ بلا نسلٍ، أيْ بلا أهلٍ ولا وطنٍ، وهو وُجودٌ علقَمٌ أشار إليه البطل في آخر جملة بالرواية بالقول: «أشعر كأن طعما مُرا بفمي، قدري أن أبقى حابي!»، وأُقدِّرُ أنّ «ريّان» بقدر ما سعى إلى الانفصال عن جسده المُشوَّه خِلْقة في بداية الرواية عاد في نهايتها يأتلف معه بكل ما فيه من تشوّهات اجتماعيّة ائتلافَ الضرورةِ، وفي هذا ما أراه يُمثّل الصورةَ الثانيةَ لمحنتِه.

٭ كاتب تونسي

عن القدس العربي

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم