"كل بقاء يكون بعد فناء لا يعول عليه، وكل فناء لا يعطي بقاءً لا يعول عليها "، بتلك المقدمة المأخوذه عن أبن عربي أحد أشهر المتصوفين قدم الجزائري محمد الأمين بن عمار روايتة "قدس الله سري"، ومن لا يتوقف عند هذه المقدمة ولو قليلاً لن يفهم كنّه الرواية ولا حتى غايتها، انها عالم بطل الرواية في طريقة الى الله واكتشافه لاسرار الحياة والموت، العشق والهجر، المعتقد والأصل، لدرجة ان كاتب الرواية محمد الأمين في حديثه معنا يقول "بعد أن انتهيت من كتابة الرواية امتلأت روحي بفكرة ان الحياة ليست سوى رحلة وستنتهي لذا لا حاجة للتشبث بتفاصيلها" .

الرواية تتوقف طويلاً عند فكرة الموت وحياة البرزخ الفاصلة ما بين الحياة والموت التي كانت ومازالت موضوع شك،  فهل يشعر الموتى  بها فعلا أم لا، فلم يمت أحد حقيقة وعاد ليحدثنا عنها،لكن نائل بطل الرواية فعلها رحل وعاد مرتين  " حملت على الأكتاف لأوضع وسط بستان من أجل صلاة الجنازة، اصطف الرجال ومن خلفهم النساء يرقبن الطقس المهيب، تقدم الإمام ورفع يديه وكبر".

تنقسم رواية قدس الله سري التي نشرتها دار الوطن اليوم إلى أربعة فصول، الفصلين الأولين حول نائل الذي يروي قصته منذ البداية حتى النهاية، وادريان الفرنسية الرومية التي باعت جسدها مجبرة تارة وراضية مرات أخرى، ثم هربت برفقة زوجها الى الجزائرهرباً لتعيش مغامرة جديدة، وهي السيدة التي ستعبر روح نائل وقلبه وستشعل جمرة حبه لدرجة سيتخلى فيها عن عقائدة وأفكاره ويقرر الارتباط بها ، بينما الفصلين الأخيرين وهما الأقل حجما فيدوران حول "الردة والبرزخ".

الرواية لا تتوقف فقط حول العلاقة  الدنيوية ما بين نائل وأدريان، بل  تتجاوزها لما هو أبعد، انها علاقة المواطن الجزائري بالفرنسي المحتل وما يحمله ذلك من أختلاف في الثقافات يتبعه بطبيعة الحال اختلاف في المذاهب والعقائد، اضطرمعه الجزائريين للعيش لسنوات جنباً إلى جنب مع الفرنسيين لا بصفتهم أخوة بل مستعمرين، يقول نائل الذي التحق لفترة بالمدارس الفرنسية " كنا نتحدث عن إله واحد ولكن بمواصفات متنافرة، فإلهي كان واحداً لا شريك له، أما إلهها فكان يوكل مهام النجاة والهداية الى مريم أو ابنها، المعلمة ماري بال في مدرسة  شالون كانت تعمل جاهدة لتسفه معتقداتنا".

في الحقيقة كل شيء في الرواية يلتبس بنقيضة، الاستسلام للموت والرغبة في الحياة، الشفقة أو الشعور بالوز والقرف، فنائل الذي قبل وبوعي منه اقامة علاقة مع زليخة اليهودية التي غادرها زوجها هارباً، دون أي حسبان أو حتى شعور بالذنب، توقف ملياً وتعفف عن فعل ذلك مع ادريان الرومية الفرنسية الهاربة من زوجها بكل تلك الأوزار التي كادت  تجعله يمسكها من ذراعها ويرميها للكلاب، لكنه أراد ان يلبثها ثوب البراءة رغم كل ذلك الوزر،  لأن الوزر وجد ليقترف وليوجد من يسامح عليه ويتجاوزة ولهذا سمى الله نفسه الغفور الرحيم، هل كان ذلك لانه أحبها حقاً وتوقع انها أحبته، هل لآنه هو العربي الفقير الُمسَتعمر الذي استطاع ان يتزوج فرنسية وأن يُسكنها في كوخه الفقير لتأتي الناس فتشهد ذلك الانتصار، أم أننا فعلا شعوب وقبائل تسن القوانين وتضع المحرمات وقت تشاء وحين تشاء، "الله ما أعظمه، حين سحرتني زليخة وأمها، عرفت ما معنى أن تعبد الله، ألا تنساه لمجرد أنك تعتقد انه نسيك أو لم يعد يهتم "

لا يكتفي الكاتب بتلك المتناقضات بل انه يعاقب بطله على فعل الحب غير المشروع وغير المقبول، فيجعله يقع في مغبات الحزن والمرض الذي يشبه السحر، فيحوله الى ميت لا محاله، لدرجة انه يموت مرتين ولكنه يعود للحياة " في البرزخ أدركت ما معنى أن يكون للواحد إله يتشبث به كي لا يموت إنسانا ويبعث حيواناً أو مسخاً كتلك المسوخ التي تحفل بها حكايات العصاة والزنه والملاحدة".

ورغم ان نائل نسخة من والده سالم بن سليمان الذي أحب أمه وتزوجها بعد أن قابلها في ضريح إبراهيم البحري، الا انه النسخة السيئة منه فوالده كان من الرجال القلائل الذين تجاسروا وأعلنوا رفضهم للوضع الذي قيدهم فيه الفرنسين بينما هو إنقاد لهم،  وهو عكس أدريان الفرنسية التي وقع في حبها فقبل ان يتخلى عن كل عقائده ومبادئة ليتزوجها رغم كل ماضيها القذر، بينما هي قبلت بتغير معتقدها لانها بكل بساطة ليست تلك المؤمنة التي تفخر بتعصبها لانتمائها الكاثوليكي، ولكن حين تعلق الأمر بحريتها تخلت عنه ورفضت ان توقع ورقة اشهارها الاسلام، الوثيقة الوحيدة التي ستمنحه الحق في العيش معها بعد ان هربت من زوجها الفرنسي.

انها رواية تدخلنا الى عالم الأولياء وسحرهم، فلولا نانا الضاوية لما تخلص نائل من سحر اليهود عليه، انه عالم القرب من الله والخوف منه ، كل ذلك عبر لغة شاعرية اشبه ما تكون بتصويرية ومشهدية .

قدس الله سري هي الرواية الثالثة للكاتب الجزائري الشاب محمد الأمين بن عمار بعد روايته "عطر الدهشة وروح الوجع"، ونال عنها جائزة الطاهر وطار في العام 2017.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم