مرة أخرى يطل علينا الكاتب العراقي هيثم الشويلي بإبداع جديد من ابداعاته التي اعتدنا على قراءتها طوال مشواره الروائي المميز .. فبعد الرواية التي حصدت جائزة الشارقة للإبداع الروائي العربي عام 2014 "بوصلة القيامة" أطل علينا بعد سنوات برائعته "الباب الخلفي للجنة" التي أخذنا حيث عالمه السحري الخاص والفنتازيا السحرية التي أتقن في تصويرها ببراعة عبر شخصياته المميزة وفكرته الغرائبية وصار لزاماً على القارئ الحقيقي المتتبع للنص الروائي المميز أن يضع الشويلي على قائمة الكُتاب المميزين الذين لابد من أن نتابع ما يكتبون وبشغف، ولا أخفيكم سراً أن ما يكتبه الشويلي نستطيع تمييزهُ منذ الصفحات الأولى للنص، ففي الباب الخلفي للجنة افتتح روايته بعبارة كانت مستفزة للقارئ بل وتضعه أمام تساؤلات عدة، ما معنى أن يكتب "مدينتي ايسكولاس أدخلوها بسلام آمنين" فنحن هنا لسنا بصدد روايته السابقة لكن حديثي هذا هو كلام متمم لما أريد قوله في روايته الجديدة التي لا تقل شأناً عن سابقتها والأولى التي حصدت الجائزة..

"فجيعة الفردوس" رواية حملت دلالات عدة من خلال متابعتنا للعنوانات التي يستخدمها الكاتب والنسق الفني الذي يحمله الغلاف والمفردة المشتركة في رواياته الثلاث –القيامة- الجنة- الفردوس.. ولا أدري ما السر في هذه المشتركات.. أعود إلى النص "فجيعة الفردوس" فقد كتبها الروائي الشويلي بطريقة مغايرة عما سبقتها من رواياته السابقة، ففي الرواية نصوص مقطعة كانت أشبه بالدرامية أو الكتابة السينمائية التي تعتمد على توليف الصورة في الذهن من خلال القراءة، يدهشني الكاتب في اختيار عناوينه الاستفزازية التي تحفز فيّ القراءة وتتبع الأثر وهو ما أورده من عنوان مصغر تحت العنوان الأصلي "ما جاء في الأثر عن سيرة نزيل في مستشفى الأمراض العقلية" السؤال الذي دائماً ما أطرحه على نفسي ما يثيرني أنا كقارئة في أن اقرأ سيرة مريض عقلي والمجتمع يغص بالمرضى الكثيرين، لكن أن ينقل لي الشويلي أن هذا المكان المنعزل من المجتمع هو أفضل بكثير مما يدور خلف أسواره وأنه يريد أن يقول أن هؤلاء أفضل بكثير منكم أنتم الأصحاء الذين لا تدركون كل هذا الكم الهائل من السرد، بغض النظر عن الرواية إن كانت حقيقة أم كانت من نسج خيال الكاتب..

تدور أحداث الرواية عن روائي عراقي مغترب يعيش في كندا، وكان يحلم من البداية بعودته إلى وطنه بعد تجرع مرارة الغربة في المنفى، فتلك البلاد التي لا تحتضن أهلها لا يمكن أن تكون بلاداً تحتضن مبدعيها، كمية الأسى التي يطلقها الروائي الكاتب على لسانه بطله الروائي المغترب كمية وجع كبيرة لا توصف وهو ينعزل عن الآخرين في المقاهي والكازينوهات الأجنبية ليعود بذاكرته إلى أيام ذكرياته المخزونة في ذاكرته والتي لا تنتهي أبداً واصفاً كل شيء في متن الرواية..

الصحفية شيماء هي أول امرأة يسمع صوتها الروائي عبد الناصر العائد من كندا بعد عام 2003 وبعد أن تجري معه تحقيقياً صحفياً لترشده إلى شخص غريب يمكن أن يكون بطلاً لروايته، وهنا أدخلنا الشويلي في متاهة استعراض النص على لسان من؟! هل على لسانه هو شخصياً أم على لسان الروائي المدون عبد الناصر أم على لسان كريم كوبر البطل الآخر الذي يقص على عبد الناصر كل ما رآه أو سمعه أو شاهده، هل كان النزيل كريم كوبرا هو يقص أشياءً حقيقية أم كان يقص من وحي خياله، أسئلة شتى تحتاج إلى إجابات شافيه بتصوري لا يعرفها سوى خالق النص الحقيقي وهو الشويلي الذي باستطاعته أن يفتح لنا باباً آخر للكتابة والنقاش لو سمعنا هذا القول منه شخصياً.. ومع الصفحات الأولى للنص يفجر الكاتب قنبلته بوجوهنا وهو يكشف لنا أسراراً نتصورها غير منطقية عن نزيل أبوه عراقي الجنسية وأمه فارسية القومية من إيران وجده لأمه أفغاني من مدينة كابول ومن قبيلة هزارة كدي الأفغانية، نضحك في سرنا لكنا نكتشف مع استمرارنا في القراءة كيف يحل الشويلي لغز هذه الإشكاليات المرتبطة مع بعضها..

في متن الرواية شخصيات لا يمكن الاستهانة بها أبداً كشخصية أحمد بربر جده الأفغاني، وهنا الكاتب يأخذنا بسياحة ساحرة يبدأ بها من عام 1880م من قبيلة هزارة كدي مرورا بمدينة سيروبي وجلال آباد ليسافر بنا إلى مدينة بيشاور الهندية ومن ثم يدخل دلهي، أسئلة كثيرة تثير الفضول لكنك مع مرور الوقت تكتشف الأجوبة كلها والحلول، في الرواية مأساة كبرى وهو ما اعتدنا عليه في نصوص الشويلي السابقة إذ يكون رومانسياً وسرعان ما ينحى في نهاية الرواية بمسارات بعيدة تماماً عن الأمل المنشود، كريم كوبرا هو المحور الأساس للرواية، الشخص المريض عقلياً الذين يسرد كل صغيرة وكبيرة لعبد الناصر الشخص الذي كان يعود لشقته في البتاويين وسط العاصمة بغداد ليدون كل شيء وعلى طاولته مبعثرة الأوراق وكما العادة لم ينسَ الشويلي الطائفة المسيحية التي يرثيها دائماً في نصوصه فقد كانت هبة المسيحية التي اضطرها العوز والفقر والحرمان لامتهان وظيفة تنظيف الشقق من أن تكون المنظفة التي تعمل بشقة الروائي والتي تعثر على الأوراق المكتوبة التي يدون بها عبدالناصر كل ما يسمعه من كريم كوبرا فتدهشها القصة وترغب بمعرفة ما يكتبه عبد الناصر إن كان هذا فعلاً أحد النزلاء في مستشفى الأمراض العقيلة، أول مرة أعرف أن هناك رجلاً لا يمكن له أن يميز بين حبين تجذرا بقلبه، حبه للصحفية شيماء وعشقه لهبة التي كانت تشبه عارضة الأزياء الكندية باميلا اندرسون التي وصفها الكاتب بأنها تشبهها تماماً..

في الرواية تواريخ وسنوات تجعلك تأخذ فكرة وانطباعاً خاصاً عن تلاعب الروائي بالزمن، أضف إلى ذلك قدرته على رسم ملامح الأمكنة في سيروبي وجلال آباد في دلهي وبحر العرب، في العراق القديم والحديث، في بيروت أيام الحرب الطائفية في السبعينيات، في دمشق وحلب القديمة، في حرب الخليج، وفي قوقعة هذا المستشفى واغتصاب الممرضات للكثير من المرضى، تأثر المجتمع السبعيني بالشيوعية وبالكُتاب الروس وجهابذة الرواية الروسية كتولستوي وديستويفسكي وغيره الكثير من الكُتاب إذ يتضح من خلال ما قام به المريض من قتل لأمه وهو يتقمص شخصية راسكولنكوف في رواية الجريمة العقاب لهو دليل واضح على التأثر في تلك الفترة بهؤلاء وغيرهم الآخرين.. في الرواية أشياء كثيرة تستحق القراءة لا يمكن أن أحصرها هنا في بعض هذه الكلمات البسيطة، وكعادته الروائي يمزج من الألم والأمل في نهاية الرواية، يبكينا تارة ويحزننا تارة أخرى، ليترك لنا المجال مفتوحاً لنكتشف عمق الرواية أكثر فأكثر بعد القراءات المتعددة للنص مرة أخرى..

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم