" قسمت" لحوراء النداوي.. رواية عجائبية عن مأساة حقيقية منسية
"قسمت" اسم لفتاة شابة، كوردية فيلية، تنتحر ذات ليلة بأن تلقي بابنتها وطفلها الرضيع من الجسر إلى دجلة ثم تلقي بنفسها وهي حامل أيضا إلى النهر المظلم.
(حكى رواد المقهى الذي يقع على ناصية الشارع الكبير المحاذي للنهر أنهم رأوا قسمت حين قدمت في تلك الليلة ماشية على عجالة وبصحبتها طفلة في الثانية من عمرها وطفل رضيع. قالوا إنهم تبينوا خيالها حين وقفت عند النهر ثم خلعت نعليها ومن ثم عباءتها لتكشف عن بطنها الحامل المنفوخ خلف " دشداشتها البازة"، ما جعل بعض زبائن المقهى ينفضون عنهم آثار السهر لينتبهوا إليها. غير أنها لم تمهلهم كثيرًا ليستفهموا، فبادرت ببساطة وسرعة إلى إلقاء الرضيع في النهر ثم قبل أن يفيق السهارى من المفاجأة أو يفكر أحد منهم في أن يهرع نحوها كانت قد ألقت بالطفلة ثم بنفسها).
بهذه السطور القليلة تبدأ هذه الرواية صفحاتها لتمضي بنا عبر أجيال نتعرف من خلالها على عائلة كوردية فيلية تسكن في الدهانة، وهي إحدى مناطق بغداد الأصيلة والقديمة، ومن خلالهم نتعرف على مأساة شريحة مهمة من شرائح المجتمع العراقي التي تعرضت للتنكيل والإبادة من خلال التسفير والتهجير إلى إيران بحجة تبعيتهم الإيرانية المفتعلة.
ربما البحث عن تفاصيل التهيجر ووثائقة يمكن العثور عليها في أرشيف الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية لكن أن يقدم عمل أدبي روائي بهذا المستوى الإبداعي الملحمي الجميل لهو نادر جدًا، إذا لم أقل إنه العمل الروائي الوحيد في الرواية العراقية الذي يكرس نفسه لتجسيد هذه المأساة الإنسانية التي يحاول العنصريون والشوفينيون إلغاء تفاصيلها من ذاكرة العراق الحديث.
وبعيدًا عن المكانة الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي تحتلها وستحتلها هذه الرواية بجدارة، إلا إن مكانتها الحقيقية تكمن في جمالياتها الأدبية. فهي رواية تنتمي للعجائبي والغرائبي، فاسم الرواية " قسمت" عن شخصية عرفنا من السطور الأولى أنها انتحرت. وعلى خلاف (قصة موت معلن) لماركيز مثلا، حيث نعرف أن الشاب نصار سيقتل، والبحث يدور عن التفاصيل وسبب القتل، فأن الروائية حوار النداوي لا تستعيد تفاصيل شخصية قسمت ولا تبحث عن سبب انتحارها، مع أن قسمت تحضر في الرواية بشكل قوي مثل الدائرة، حيث تبدأ الرواية بها وتنهي أيضا، لكن حضورها على مدى أجيال هو حضورها كشبح. شبح ليس شفافا أو هلاميا كما الأرواح لكن بحضور حقيقي عجائبي.
"قسمت" هي رواية التفاصيل. رواية انثربولوجية، تنحني بحنو بالغ على تفاصيل شريحة اجتماعية هم (الكورد الفيليون)، بكل تفاصيل حياتهم اليومية وازدواجيتهم اللغوية، وذاكرتهم الجبلية، لكنها من جانب آخر رواية عجائبية، حيث تعيش الأشباح مع البشر في بيوتهم وغرفهم، عبر حوادث وأعاجيب لم نعرف مثلها في الأدب العراقي.
شخصيا استمتعت بهذا الرواية بشكل خاص لأنها تتحدث عن أناس أنتمي لهم، وأعرف مأساتهم، وبوحهم، وتفاصيل حياتهم، وحنينهم، وخوفهم، وتشتتهم، وهجرتهم اللانسانية حين ألقيوا وراء حدود البلاد في حقول الألغام، لكنها من جانب آخر رواية درامية عجائبية وتتحدث عن الأمكنة الغرائبية.
وبعيدًا عن مضمون الرواية الشجي، فأن الروائية حوراء النداوي قدمت عملًا أدبيا مهما، باسلوب يقف القارئ أمامه متعجبًا على هذه القدرة الفائقة والتأني المحترف في رسم تفاصيل الشخصيات، وسرد الأحداث والانتقال عبر الأجيال والأمكنة والبلدان. بل إن لمستها الجمالية المهمة تكمن في أنها تمكنت من الاحتفاظ بالفضاء الغرائبي للرواية دون خلل ، وبإقفالها على شخصية قسمت التي تظل غامضة إلى آخر سطر في الرواية، فحتى لقاء قسمت بالشخصية الغريبة في آخر الرواية لم يكشف عن سر انتحارها. هل كانت مجنونة؟ هل كانت ممسوسة؟ ما سر الشغف وفيض الوجد الذي كان يهيمن عليها؟ وما سر ذلك الفراغ الهائل في أعماقها والذي دفعها أن تنتحر بهذه الطريقة الجماعية؟. إذ أن الرواية تنتهي بينما نحن نفكر في شبح قسمت الذي نتعامل ليس كشبح وأنما ككيان حي وشخصية روائية مهيمنة، وهذا يحسب للروائية حوراء النداوي.
حوراء النداوي من خلال رواية "قسمت" أثبتت جدارتها كروائية شابة متمكنة من رؤيتها الفنية وعالمها الروائي الخاص بها.
الرواية من منشورات الجمل
ــــــــــــــــــــــــــ المقال من صفحة الروائي بر هان شاوي
0 تعليقات