الرواية بناء متماسك وهنا وُلدت الحبكة والشخصيات والحدَث، حسناً تطوّر الفعل الروائي الحديث لهدم الحبكة بل الحدَث ذاته، وجعل التشظي واللغة تسيّر العمل وهي فعل قد يُنتِج أعمالاً تُدرَس وقد تموت بزمنها بسبب عدم وجود تقنية فنية قوية لمثل هذه الأعمال.

أحمد مراد بهذا العمل "الكلاسيكي" كتقنية حيث الراوي العليم ولا وجود لصوت للأبطال أو أضدادها كـ شخصية "شحاتة الجن" - الأبضاي- الذي يقتَل برصاص الإنجليز بمظاهرة تأييداً لحركة سعد زغلول الشهيرة بداية القرن العشرين بمصر أو ابنه "عبدالقادر" الذي يبدأ "براغماتيا" يبيع المشروبات والسجائر الفاخرة لمعسكرات الانجليز وينتهي ثورياً مع حركة "اليد السوداء" ضد الاستعمار!. نحن أمام شخوص متضادة حول مفهومي "الخير والشر" اللذين يبدوان أبديّي الصراع.

الرواية والتاريخ حديث قديم جديد

الرواية ليست تاريخاً بقدر ماهي محاولة إنسانية لإبراز حيوات الناس اجتماعيا لذا سيبدو القارئ بمواجهة تاريخ "مجازي" به أحداث واقعية وأخرى مُختلَقة. وهنا بـ 1919 يدخلنا الكاتب بحقبة معقدة جدا من تاريخ الشرق الأوسط ككل ومصر بشكل خاص فهذه التاريخ كان نهايات حرب عالمية وعز "العرش الإنجليزي" وتصارع القوى حول بقايا تركات العثمانيين ينهشونها ولا يرحمون. فيبدأ بدكّ الإنجليز لساحل اسكندرية بتاريخ 1882م إزاء تمرد "أحمد عرابي" (صمدَت المقاومة المصرية شهرا في وجه الاحتلال)ص5.

فبغضّ النظر عن حركة عرابي الثورية أو الفورة ببعض التوصيفات إلّا أننا إزاء إدخال واقع حصل تاريخيا بلا تدخل المؤلف حول التوصيف والرأي. ولم يكُن ذكر "الخديوي" إسماعيل انتهاء بفاروق بسياق الرأي إنما للحدث "الرواية" ذاته، أي بلا تدخُّل الروائي.

ومع قيام الحرب العالمية وصراع المحاور ومصر التائهة والمطالبة بمساعدة طرف ضد آخر " واذا بمصر تجِد نفسها في وضع لا تحسَد عليه، سلطانها يفرض اسمه ملك الانجليز، مُحتلة بملايين الجنود، ومطالبة بمساعدة المحتل في حربه" ص7.

ويواصل الوصف "بين الغبار والبارود عاشت مصر تائهة، مجرورة مثل الجاموسة العُشر خلف إمبراطوريات متغطرسة..." ذات الصفحة السابقة.

ومع هذا الوضع " احتلال مع ملك متخاذل همه العرش" تصبح المقاومة حتمية الولادة والتي مثّلها كبطل " أحمد كيرة" الذي يمازح عشيقته فيما بعد نازلي ابن الوزير بالحكومة المصرية لآنذاك بقوله "قتال قتلة بعد الظهر" واصفا نفسه! هذه القصة المشتعلة بين فرد من الطبقة الوسطى "طبيب" عصامي مع سليلة نسب متشعب من اليونان وفرنسا ومصر والذي اعتبرها سعد زغلول ابنته "التي لم ينجبها".

اللذة التاريخية تمتزج مع خيال "مبدع" للكاتب.

العهر المقنن

مع الحديث عن "العهر والرذيلة" سيتوازى الحديث عن الفعل الروائي ك "تابوه" غير مبتذَل .

بهذا العمل نجِد ورد "الأرمنية" ابنة سركيس الهارب من مذابح الأرمن السوريين على يد الأتراك "وهنا تاريخ كذلك" الذي سكن الأزبكية ببناية يسكن دورها الأول "بنبة القوادة" وسلامة النجس "الذي تحرق ورد وجهه مع هربها من وكر الدعارة المقنن عند بنبة والذي يساعدها عبدالقادر ابن شحاتة الجن الزبون الدائم عند بنبة؟ والذي بدوره سيعشق صفية المعلّمة بمدرسة بالقاهرة مع أصل من المنيا "صعيدية الأصل".

هذه الصورة قلّ من يكتُبها بحرفية "لم تكُن بنبة سوى قوّادة عتيقة، وُلِدَت قبل بدء الرذيلة بعامين، عاشت عاهرة مقبولة لها اسم يُطلَب وجسد يُرتجى، قل أن يفرمها الزمن وتشحّ زبائنها..." ص 16.

ورد التي تعاني موت أمها جراء "الانفلونزا الأسبانية" -المرض الأسبانيولي- بعد فقدانها لأبيها تلقّفتها "بنبة" لتضمُها لبضاعتها من "اللحم البشري المقنن".

فيصِف الراوي العليم بيت بنبة "العايقة" (في الغرفة الرطبة التي يفضِّلها استرخى عبد القادر على السرير بعدما خلَع قميصهُ والحذاء، لم يكُن ذلك المكان بيت فاحشة بالنسبة له، كان بيته الثاني...) ص75

أمام هذا العمل الذي يبدو ظاهر الحال "مكشوف الحدث" لكنه يأخذ صفة الحوار الداخلي للحدَث بشمل مشوق بلا حشوٍ تقريباً ..

  • ألا تجِد غضاضة في التعامل مع انجليزي؟
  • لمَ تقول ذلك يا صديقي ؟
  • لست أنا الذي أقول... انّما هو ذلك الرجل.. سعد..

هذا الحوار بين "الإنجليزي الضابط و كتكوت" الذي ماهو الاّ احمد كيره..الذي يجمّع أزرار من يقتُلهم من "المحتلّين" الانجليز.. رواية تضع كاتبها على حُسبان القراء باستحقاق.

ـــــــــــــــــــ

  • كاتب من السعودية

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم