يغتسل الروائي "هيثم الشويلي"بالوجع المخضرم مع الذكريات الجميلة التي تستوطن الذاكرة، يفتتح نصه بجملة تختلط فيها الأفراح بالأحزان يقول:«الذكريات كالنبيذ الأحمر حلوة في فوات أوانها مرة في حقيقتها»، وكأنه باستحضار الأحمر هنا/النبيذ الأحمر سيأخذنا إلى عالم مليء بالدم، يتطلب أن نسكر حتى لا نشعر بالألم، ليضيف مستهلا حديثه -كعادته- مطعما سرده بالأنثى فيقول:«يقال أنكِ شيء ما..لكنكِ كنت كل الأشياء»، وعليه: من التي ألقت بهذا الكاتب/ الروائي/ البطل في لعنتها!؟ ولماذا الوجع رفيقٌ دائم لكتابات الشويلي!؟ أهي الفجيعة حقا!؟

يراودني العنوان وأراوده بكل ما فيه من تناقضات يجتمع فيها الرعب والخوف إلى أقصاهما، ذلك أن الفردوس هي أعلى مراتب الجنة؛ فهل يحاول الروائي أن يحيلنا على أن هذه الرواية تحتضن أقسى درجات الوجع من خلال عنوان روايته:(فجيعة الفردوس!؟) ربما.. فقد افتتح هيثم سرده بآلية زمنية تبنى فيها قالبًا استرجاعيًا مشيرا إلى أقصى درجات الحزن مستحضرا الوطن، والفقد، والغربة، تارة وأقصى درجات الفرح باستحضار أنثاه تارة أخرى، ولو حاولنا الجمع بين هاتين الثنائيتين الوطن، والأنثى لوجدنا بأن الأنثى معادل موضوعي للوطن/الأم/ العراق، ولكن المفارقة تكمن في أنّ حضور الوطن كان موجعا حد النخاع، وحضور الأنثى كان مفرحا حد السكر، موجعا حد الفجيعة. وكأن الكاتب حاول من خلال أنثاه أن يودع الشق الجميل من الوطن فيها، ليقتله بعد ذلك من خلال الحرب، والدمار الذي حل به.

ينطلق الكاتب من هذه الثنائية ليكون السرد برمته استرجاعا لذكريات حصلت وانتهت، وهذا لا يلغي تخلل القصة بعض الإستباقات التي فرضتها طبيعة البناء السردي الخاص بهذه الرواية. أحداث مضت وانقضت أعاد حضورها بلسان أبطاله، بدءً من "عبد الناصر" الذي جعله يمتهن مهنة الكتابة/كاتب،"عبد الناصر" الذي تغرب عن وطنه/العراق واستقر في كندا، هاربًا من طيف الموت/الخديعة/الفجيعة/الدمار/الحرب، وصولا إلى"كريم كوبرا" كشخصية تلازم مستشفى الأمراض العقلية، ولكنها شخصية متفردة، مرورا بـــ"شيماء" الصحفية العراقية الناشطة ضد الفساد، والمفسدين، حيث أن معظم كتاباتها هي اقتصاص ضد المسؤولين الكبار، الذين لا يهمهم ما يحصل من انهيار في وطنهم، لينتهي بها السرد بالاغتيال من قبلهم بعد تهديدات عديدة وجهت إليها من جراء كتابتها الصحفية الناقدة للفساد والمفسدين، "شيماء" التي تلقت أولى خطوات الحب على يد "عبد الناصر" الذي ترك الوطن بعد وفاتها، "شيماء" التي كانت الوسيط بين كل من"كوبرا"، و"عبد الناصر" في بداية السرد، فهي من اقترحت كتابة رواية عن "كوبرا" كونه شخصية تمتلك الكثير من الحكايات الصادقة والمخيفة -التي تخص الوطن- الصالحة كمادة دسمة للكتابة، وهنا تبدأ رحلة الوجع، الذكريات، الحب، الفقد، الحرب، السلام، الغربة بكل أنواعها: (غربة النفس، الغربة عن الوطن، والغربة عمّن أحببنا). وينطلق "هيثم" من الجنون كمادة ليوصلنا إلى أقصى درجات الحكمة، والعقل منطلقا من مقولة:( الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين).

أن يسير السرد بلسان "كوبرا" الذي يقتن بمستشفى الأمراض العقلية، هو الجنون عند الجميع، وقمة العقل عند الكاتب/ عبد الناصر/ الروائي/ هيثم ليكون بذلك السرد ثنائي، يتداوله كل من "كوبرا" و"عبد الناصر"، أما "هيثم" ففي هذه الرواية هو مجرد ناقل لأحداث غيره خارج حكائي متجانس حكائي. ينغمس السارد بكل هذه التفاصيل ناقلا لنا أزمة العراق وصراعها مع السلطة الفاسدة بلسان الأنثى/شيماء التي هي في الحقيقة معادل موضوعي يحلينا على العراق. وبين الفساد والصلاح يتجلى الصراع الذي ينتصر فيه الفساد في الأخير على الصلاح، ممثلا في حقيقة اغتيال شيماء. وتنتصر فيه الحرب على السلام، والفقد على الحب، وهنا الكاتب ينتصر لفجيعته رغم كل المحاولات الكبيرة منه، والآمال التي حاول أن يجعلها تكبر في قلبه قبل عقله لجعل العراق وطن يشبه باق الأوطان، لكنها الحقيقة المرة التي تجعله يستسلم للفاجعة التي التصقت بتلابيب الكتابة، لينتهي السرد بأمل مؤجل ارتبط ببالونة سلام أطلقها الكاتب في عنان السماء/ سماء الغربة/كندا قدمتها أم لابن مجنون صفعه أثناء استرجاعه لأحداث الرواية برمتها وهو جالس يتأمل البحر، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن تلك الصفعة أفاقت العقل الباطن لـــ"عبد الناصر"، أفاقته من وهم عشش في لغته بصوت "كوبرا"/ المجنون ظاهريا/الحكيم باطنيا، وهنا يتجلى لنا بوضوح الصراع الحاصل بين العقل الظاهر والعقل الباطل، يتجلى لنا خطاب العقل والجنون ممثلا في تلك الصفعة من قبل المجنون، والتي تحيلنا على العقل في حد ذاته. أمّا تلك البالونة البيضاء فهي الأمل الهارب، في فضاء سماء غريبة غربية لا تشبهه، الأمل الدفين الذي يتضمن رسالة الكاتب للسلام/اللون الأبيض قد يكون مفادها أن العراق سيرفع رايته وسيعود المجد مرة أخرى للوطن.

إن المتأمل لهذا السرد الذي تتشابك فيه "خطابات العاقل والمجنون" يستشف بأن الكاتب أوهمنا في البداية بأن "كوبرا" مجنون، ولكنه في الحقيقة فضّل الجنون على العقل؛ أي أنه فضّل البقاء في مستشفى الأمراض العقلية، على الاستقرار في وطن عاقل والتعامل مع عقلاء!. وهذا الهروب هو حكمة لاذ بها كوبرا ليقول الكثير عن الوطن تحت مسمى الجنون، وكأن الكاتب/هيثم، والراوي/ عبد الناصر اختارا –أيضا- الجنون كوجهة لقول الحقيقة عارية دون خوف، ذلك أن البوح بالحقيقة هو موت للذات، ولعل اغتيال شيماء أكبر دليل على أن الحقيقة تموت مهما صمدت، والبوح بها عارية في وطن يستجيب للرشوة، ويخرس كل الأفواه الناطقة بالحق موتًا. وعليه فإن اختيار"كوبرا" هو اختيار حكيم، وهو قمة العقل، هو اختار الجنون ليبوح بكل الملابسات الخاطئة التي تقام جهرًا وخفية في وطنه، واختار ولاذ بعقله من هذا المجتمع المريض/المجنون، واستقر في مستشفى الأمراض العقلية الذي أصبح يمثل له حدود الوطن، وما خرج عن تلك الحدود فهو وطن آخر لا تمثله سوى الحدود الجغرافية. وبذلك نفهم بأن كوبرا في هذا السرد هو صدى صوت الكاتب والراوي عبد الناصر، وكأن الذي لم يستطع البوح به الكاتب والراوي خوفا من فجيعة الموت، قالاه بصوت كوبرا.

وعليه ينتصر خطاب الجنون/العقل، على العقل/ الجنون. وتنتصر الكتابة الإبداعية/التي يعتبرها الكثيرون -ضرب من ضروب الجنون- على الواقع المر، وتنقل الحقيقة/ حقيقة الواقع/ الوطن/ الحقيقة عارية في ثوب إبداعي جميل دون أي ضرر، وكأن الكاتب أراد أن يحيلنا -بعد أن قتل شيماء واغتيالها/ التي تمثل صوت الحق-، على أن الحقيقة تبقى عارية مهما أراد الآخرون قتلها، وأن صوت الحق سيجد ألف طريق ليمر وينصر الوطن، ولعل هذا ما مربطه بالنهاية/ الأمل، والسلام المأمول مستقبلا/ البالونة البيضاء.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم