وحدها الصدفة من أوقعتني مع هاته الرواية التي (دعستها) في خمس ساعات متواصلة. لم يعرف النوم طريقًا الى جفوني منذ أن بدأت في قراءة الصفحة الأولى.

طيلة يوم أمس، كنت برفقة دليلتي ومرافقتي الأستاذة الجامعية "أنوشكا جوزيفينا"في علم الاجتماع بجامعة "بورتو نوفو" وجميلة المحيا والقوام والروح في نقاش عن المرأة في المجتمع البنيني "الشقيق" ونحن نتنزه بين الاماكن التاريخية والسياحية في مدينة "بورتو نوفو".

قادني فضولي وشغفي بالروايات ان أطلب منها زيارة بعض المكتبات وسط العاصمة لاقتناء بعضها.

بابتسامتها الواثقة وحديثها السلس، أقنعتني بالتريث قليلا وان نستكمل جولتنا المقررة على أمل أن ندرج زيارة المكتبات لاحقا..

لكنها ودون أن تخبرني ونحن مساءً ملتحفين حول طاولة العشاء في الفندق، وقبل ان تطلب الاذن بالمغادرة، ضاربةً موعدا لي في صباح الغد.

سحبتْ من حقيبتها اليدوية نسخة من اول رواية بينية، قائلة أمام الجميع:

  • غادتي السورية أرجو لكِ قراءة ممتعة مع أول عمل أدبي "بنيني" محض.

استولت الدهشة على وجهي، وعانقتها شاكرةً ممتنة على التفاتتها النبيلة. وأنا أسمع اسمري الرجيم يقول بصوت مسموع، جعل الحاضرين يضحكون:

  • يوووووبي... اليوم سأنام جيدااااا.. شكرا "انوشكا" تستحقين مكافأة من الشركة..

طبعا، أغاضني استفزازه.. وعقبتُ بطريقتي دون ان أتكلم.

أغلقت عينا وكأني أغمزه، ثم مددت يدي على ذقني في اشارة :

  • أهو ذقني احلقو..

ثم انسحبت إلى مكان هادئ في حديقة الفندق، قرب فانوس، بعد ان طلبت من النادلة "شايّا مغربيا مع الكثير من اوراق النعناع" وبدأت مغامرتي مع الرواية: يمتلك الأدب البنيني تقليداً شفوياً عريقاً يعود لما قبل الغزو الفرنسي والذي جعل من الفرنسية اللغة الرسمية. تراث (بنيت) غني بالأساطير والقصص الشعبية والأغاني، أما أدبها المكتوب فبدأ بالظهور منذ عام 1844م بترجمة مقاطع من الكتاب المقدس/الانجيل مع أولى البعثات التبشرية.

انتشرت الفرنسية بين المثقفين الأفارقة الذين نشؤوا في المناطق الخاضعة للنفوذ الفرنسي، أو الذين تلقوا تعليمهم في فرنسا، ونجم منهم بعض الكتاب الذين حازوا شهرة كبيرة، وكانت الكتابات التي نشرها بعض مستكشفي القارة ومستعمريها والمبشرين مقدمة لمجموعة من المؤلفات التي تصف القارة وسكانها، وفي طليعتها: «رحلة تومبكتو ودُجينة» (1830) (لرونيه كاييه) René Caillé ثم بدأت تظهر بعض كتابات الأفارقة أنفسهم من أمثال (عثمان سوسيه) Otman Soussé من السنغال، و Paul Hazoumé (بول هازومي) من الداهومي/بنين، و Renie Marin (رونيه ماران) من غينيا الذي كان في طليعة الكتاب الأفارقة الذين جابهوا الاستعمار وكشفوا عن مخاطره وأعماله، وعدُّ مؤلَّفه (باتولا) Patoula الفائز بجائزة الفرنسية (الغونكور الأدبية) (1921) والصادرة عن الاكاديمية الفرنسية للعلوم الانسانية، بداية حقيقية للأدب الإفريقي المكتوب بالفرنسية. كتب ( فيليكس كوتشورو) أول رواية بنينية، وله العديد من المؤلفات والمقالات. نشر روايته الأولى: العبد/ ليسكلاف. L'Esclave

في باريس في عام 1929. توفي فيليكس كوتشورو في عام 1968 في (لومي عاصمة التوغو). في روايته، ينتقد (فيليكس كوتشورو) من خلال شخصياته المتعددة وعلى رأسهم:

سفاح القربى (ماولوي/العبد/الشر) و (أكويبا/ الحرّة/الغواية) و (جبرائيل/السيد/الخير)

الكتاب المقدس/الإنجيل: في كتابه (سفر التكوين)، ويجعلنا نشم هذه الظاهرة من خلال السؤال الأبدي عن كيفية تمكن (الله) من مضاعفة خلقه من شخصين.

شخصيات النص الروائي:

-ماولوي:

اشتراه والد (كوملانجان) في سن الثامنة بأسعار مخفّضة، وكان يعامل مثل أبناء سيده حتى وفاة هذا الأخير، ليبدأ (ماولوي) في المعاناة والتمييز بين " الأطفال الشرعيين والعبيد ".

تعني (ماولوي) في مينا: "سيوفر الله"

  • كوملانجان: هو سيد البيت، "الأخ الأكبر" ل(ماولوي)، بوفاة والدهم، والذي حرِمَ شقيقه (ماولوي) من نصيبه في الميراث. يأتي اسمه على جزأين: (كوملان) يشير إلى شخص ولد في يوم الثلاثاء و (جان) يعني "كبير". لإنه يمثل أكبر أفراد العائلة "الذكور".

  • أكويبا: الزوجة الرابعة والأخيرة من (كوملانجان) وهي عشيقة شقيق زوجها (ماولوي)، التي سقطت في زنا المحارم مع (ماويلاي) أدى إلى حمل غير شرعي. فبدأ يطالبها بالاجهاض مخافة اكتشاف أمرهم. لكن خلال عملية الاجهاض ماتت (أكوبيا). خجل من شأن افتضاح أمرهم في البداية ولكن سيتم اكتشافها مع مرور الوقت. سيكون اكتشافه سبب موت العديد من الأشخاص ، بما في ذلك (كوملانجان).

  • دانسي: هي زوجة "العبد" (ماولوي) عقيمة حتى وفاتها. لم يكن لديها ذرية على عكس العشيقة (أكويبا)، والتي بدأت بتهديدهم ومساومتهم. بقيت امرأة مخلصة لزوجها حتى الثواني الأخيرة من حياته.

  • جبرائيل: هو الابن البكر ل(كوملانجان) من زوجته الأولى. بعد أن عاش على الساحل البنيني لفترة طويلة. عاد إلى مسقط رأسه بعد وفاة والده لاستعادة مكانه وللحفاظ على وضع النظام الاسري مع استعادة الامتياز "الابن البكر" في هرمية المجتمع القبلي"البينيني"

(فيلكس كوتشورو) الروائي أو الضمير المستنكف. يحدد موقع روايته على ضفاف نهر (مونو)، و تحديدا في قرية (هانتنغوميه) جنوب (بنين). وهي قرية غنية بمناظرها الطبيعية والهادئة. مياهها الرقراقة جعلت منها أراضي للزراعة وحقول للأشجار المثمرة. ركز الكاتب (فيليكس كوتشو) اهتمام قرائه على "العبودية" التي يمكن وصفها بأنها "محلية"

أحداث الرواية على شخصية (ماولوي) وهو عبدٌ في سن الثامنة اشتراه السيد والد (كوملانجان) الذي علّمهُ وعمّدهُ ليضيفهُ إلى نسله الخاص، مما رفع قيمته من "عبد" إلى آصرة "الأخوة".

لكن هاته الآصرة طبقا للعرف السائد في "بنين" أو مملكة الداهومي سابقا لا يعطيه الحق في الميراث. مما عجّل ب(ماولوي) أن يُقسمَ على الانتقام. لتنطلق مغامرات العبد (ماولوي) في سلسلة الانتقام، وكانت أول ضحياه هي (أكوبيا) زوجة أخيه (كوملانجان) التي سقطت في زنا المحارم معه، أدى إلى حمل غير شرعي.

فبدأ يطالبها بالاجهاض مخافة اكتشاف أمرهم. لكن خلال عملية الاجهاض ماتت (أكوبيا). مع عودة غابرييل، اشتعلت شعلة الأمل مرة أخرى في هذه العائلة التي مزقتها الكراهية والغيرة. رواية تشرح لنا سنوات "العبودية" للمجتمع الأفريقي في القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر.

يشكل وعي (ماولوي)، العبد، وطموحاته المفرطة من أجل التسلق الطبقي، طريقه إلى ممارسة كل أشياء الظل والمكر والخداع، لتكون مجالًا لتجربة الإرادة البشرية التي تكافح برغبات القلب.

يبدو أن الجدلية الهيجلية بين "السيد والعبد" تستخدم كخلفية ل(فيليكس كوتشورو)، إلى أته نجح في قتل شهوات (ماولوي) التي يمكن أن تنتصر أخيراً على عشيرة(كوملانجان) ممثلة بنجل الدم ، (جبرائيل).

إلى أن هذه الجدلية التي تم نشرها في رواية (العبد/ ليسيكلاف)، تمكننا من ملاحظة تراكيب النص و بألعاب الميكانيكية جديرة بالاهتمام والبحث والنقاش عن تاريخ زمني محدد أو مطلق في تاريخ "العبودية" من منظور آخر (بشرة سوداء مع بشرة سوداء، عكس ما نعرفه في تاريخنا المشرقي بشرة بيضاء ضد بشرة سوداء) والتي كانت بمثابة العمود الفقري للعمل الروائي ل(فيليكس كوتشورو): الخصوم بين الخير والشر ، الحرية والعبودية والضوء الظلام والجمال والقبح.
هذه الألعاب أو الأكمام يمكن أن تقرأ في هذا الكتاب التناقض بين إفريقيا الممثلة بالمولوع والممارسات التقليدية وغابرييل والمسيحية.

الخاتمة جاءت عبارة عن صدمة قوية في الرواية، مما أدتْ إلى فوز (جبرائيل/الخير) عن (ماولوي/الشر)، وبالتالي فإن الغرب وبشكل مبطن في هذا الكون المتضارب الذي يواجه فيه المؤلف إفريقيا وأوروبا، ليدرك القارئ أن المؤلف يلمح إلى أنه من غير المجدي أن يلجأ الأفارقة إلى قوى الظلام. لإن بعض النقاد لا يعتبرونه كاتبًا ملتزمًا حقًا يمكن فهمه بسهولة نظرًا لمقاربته في اللقاء بين الغرب وأفريقيا.

الرواية مكتوبة بأسلوب بلغة فرنسية بسيطة للغاية يصفها المؤلف نفسه بأنه "على الأرض" أو "شركة جيدة" في مقدمته، وهي في متناول القارئ، في حين أن (فيليكس كوتشورو) البسيط لا يفشل في إبقائك معلقًا طوال القراءة.

إن وصفه للأماكن المكانية والزمنية يسيطر علينا ببراعة ويغرقنا في مشهد ساحر ، هو منظر البُحيرات الضحلة لنهر (مونو).

(العبد) هو عمل أدبي جميل غني بالتعاليم، لأنه يفتح أعيننا على الأخطار التي تهدد أسرنا عندما لا نكون حذرين من الغيرة والظلم والازدراء والكراهية ورفض المغفرة. اعدكم بقراءة اخرى لروايات "بينينية" وافريقية وبلغات مختلفة


بورتو نوفو - بينين

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم