قدم لنا عام 2017 كاتبا روائيا وفنانا برتغاليا، تُرجِمَ للمرة الأولى إلى العربية عبر رواية غريبة تنفذها شخصيات واقعية سحرية، إنه البرتغالي أفونسو كروش الذي قدَّمَ هذا النص بعد اقتناعه التام بفساد الذائقة العامة في العالم، ومحاولة منه لتكريم الشعراء حيث ترجمها إلى العربية بلغة انسيابية عبدالجليل العربي ونشرتها دار مسكلياني في تونس هذا العام. الكاتب البرتغالي أفونسو كروش، في روايته الأولى بالعربية بترجمة عبدالجليل العربي والصادرة عن دار مسكلياني في تونس، يقدم رؤى مختلفة عن فهم المجتمع لطبيعة الثقافة ودورها في التنمية، فالخيال كما يراه الكاتب ليس هروبا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاما مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية، فالخيال والثقافة يبنيان عند المؤلف كل ما نحن عليه.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

شعراء للبيع

رواية “هيا نشترِ شاعرا” رواية التهكم على المجتمعات المعاصرة التي صارت تجنح للمادية بصيغة مرعبة، فكل شيء خاضع للحساب، حتى العواطف تخضع في هذه الرواية لعملية حسابية معقدة، والشخصيات تظهر وتغيب بناء على رموز كأنها تدور في معادلات رياضية، أنقل هنا حديثا عن الحب بين الأخ وأخته التي حملت لسان السرد في الحكاية:

"أنا عاشق، قال. كم؟ سألت. بنسبة سبعين في المئة. واوو! المسألة جدية هذه المرة، سبعين في المئة؟ ربما أكثر قد تكون اثنين وسبعين أو حتى ثلاثة وسبعين، لم أقم بدراسة الحالة حتى الآن".

بهذه المعطيات الغريبة يبني أفونسو كروش شخصيات الحكاية بناء على متغيرات تتعلق بالدرجة الأولى بواقع الحال القلق ومقتضياته وغرائبيته في وقت واحد.

الجمال في هذه الرواية أنها تقف على مسافة صفر من كل شيء، فالعائلة مؤلفة من الأب المسيطر على كل مقادير الحياة، الأم التي لا تخالف الأوامر إطلاقا، الابنة الحالمة بمستقبل وحياة أفضل والابن المتفرغ للاشيء، إنها حياة مبنية في تفاصيلها على العبثية، بشخصيات تسير بشكل أقرب إلى الآلات، تلك التحيات التي ينثرها الأب بشكل غريب فيقول “نمو وازدهار”، بينما العمود الفقري للرواية يأتي في مشهد تطلب فيه الفتاة من العائلة شراء شاعر، “هيا نشتر شاعرا”، فتفاضل العائلة بين شاعر ورسام، لتستقر في نهاية المطاف أن الرسام يترك أوساخا تتمثل بالألوان، بينما الشاعر أخف تكلفة للعائلة الخاضعة في الأصل لعالم الأرقام والكميات، هكذا يغدو المشهد عندما يتجه الأب مع ابنته نحو سوق لبيع الشعراء، “كان المحل يعج بشعراء من كل الأصناف، قصار، طوال، شقر، بنظارات ‘وهم الأغلى’، علما أن الجزء الأكبر منهم، اثنين وسبعين في المئة، كانوا صلعا وثمانية وسبعين في المئة كانوا ملتحين”.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

الشاعر يقلب الطاولة

تستوقفك التفاصيل غير المنطقية في هذا العمل الذي كتب كحيلة ومدخل حكائي لتكريم الشعراء، ولغرابتها تقترب من تصديقها، فمن الممكن أن تجد معرضا في الواقع لبيع وشراء مواقف الشعراء، ولنا في التاريخ القديم والحديث نماذج عديدة ومتنوعة، لكن ما يطرحه أفونسو ليس شراء موقف الشاعر بل شراء الشاعر نفسه، وحين يسأل والد الأسرة الحانوتي بعد أن قرر شراء الشاعر الأخنف الذي لا توجد ماركات عالمية على ملابسه:

“ماذا يأكل؟ يرد الحانوتي: أي شيء، ليسوا متطلبين كثيرا، في أغلب الأحيان وبعد مرورهم بثلاث حالات خاصة بهم أو أربع حالات في الأسبوع، يصلون إلى درجة نسيان الأكل تماما، بعضهم يغادر الطعام عند المنتصف ويهيم من دون وجهة، يحدث لهم ذلك كثيرا عند غروب الشمس أو ظهور القمر أو الضباب، وهذا سلوك معهود وتقليدي لديهم”.

يتوقع القارئ أن يكون الشاعر الدخيل على أفراد العائلة شخصية تشبههم أو تسير في ذات الإطار العام لرسم الأبطال المتخيلين، لكن ما إن يخطو عتبة المنزل ويحددوا له مقر إقامته في المنطقة التي تقع أسفل الدرج مباشرة، حتى تسري في أرجاء البيت لغة جديدة مبنية على التخيل بعيدة في جوهرها عن كل ما اعتاده الساكنون في المنزل من كلمات تقارب الأوزان والكميات، يفتح الشاعر نافذة وهمية على البحر، من هنا تبدأ الصدمة الأولى في مفهوم الشعر وضرورته عند الفتاة، فتروي الساردة تفاصيل الحياة بحضور الشاعر الذي صار جزءا من محيطها، تورد هنا مثلا ما حدث معها في المدرسة:

“ذات يوم سألوني في المدرسة عن سبب رغبتي في شراء شاعر، قلتُ إنني أحب الشعر/ غير نافعة! صرخوا/ أنتم لاتدركون أني أحصِّل ثقافة؟/ بماذا تنفع؟/ بكومة من الأشياء/ هل هذه كمية؟ عليك مشاركتنا بقليل من ذلك لنعرف قيمة الصفقة، انفعلت وأجبت بأسلوب عنيف: الثقافة لا تستهلك، فكلما استخدمتها زادت أملاكُك”.

أفونسو كروش يقدم رؤى مختلفة عن فهم المجتمع لطبيعة الثقافة ودورها في التنمية، فالخيال، كما يقول الكاتب في ما يشبه الخاتمة، ليس هروبا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما، هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاما مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية، فالخيال والثقافة يبنيان، والكلام لأفونسو، كل ما نحن عليه، خيالاتنا تأتي من التفكير العلمي، لهذا ضمّن الرواية ما يشبه المقالة التي أعتقد أن الرواية كلها كُتبت ليقول ما يريد قوله من خلال ما يشبه الخاتمة التي وضعها، إلى جانب فكرة تكريم الشعراء الأساسية في النص.

في هذا النص المفتوح على كل الثقافات استطاع الكاتب البرتغالي الذي درس الفنون الجميلة في لشبونة، أن يلمس أكثر القضايا الحاحا، تلك التي تتعلق بتنمية الثقافة وضرورة إعادة فهم وإنتاج العلاقات الثقافية مع دوائر المجتمع وشرائحه، إنها تساؤلات مشروعة عن مكانة الشعر والأدب، ودورهما في عملية التنمية والتطور، كروش يخاطب المجتمع أيضا بعملية حسابية تشبه المنطق الذي يحكم المادية التي بدأت تغرق

العالم، فالزراعة أو الصناعة التي تُدر أرباحا على خزينة الدولة هي أشياء آنية حالية ترتبط بسلسلة في عملية الإنتاج، بينما الاستثمار في الثقافة يؤسس لمجتمعات سوية وهو لا يقل بالمطلق عن الاستثمار في مجالات أخرى، المسألة هنا لا تعتمد على فكرة الحاجة إلى الجمال فقط، إنه يقنع المجتمعات بأن الاستثمار في الثقافة أمر هام وضروري لصلاح كل المجالات الأخرى، فالشعر عند أفونسو كروش بإمكانه إنقاذ العالم.

عن صحيفة العرب اللندنية

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم