في الوقت الذي كتب فيه روايته الأشهر "عناقيد الغضب"، كان الروائي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل جون شتاينبك (1902 – 1968) يحرّر دفتر يوميات سرّي، يسجّـل فيه وقائع يومية تتعلّق بمعاناته وانفعالاته وقت كتابة الرواية. نتحدّث هنا عن الفترة من أواخر مايو 1938 حتى أكتوبر من السنة ذاتها. يستيقظ شتاينبك باكرًا، فيسجّل في دفتره ما يتوقّع إنجازه، أو على الأقلّ ما يأمل في إنجازه. وفي المساء يُجمل الحساب الختامي لما أنـجـزَه بالفعل. انتهى شتاينبك مِن كتابة "عناقيد الغضب" في سبعة شهور، بعدما حدّد مسبقًا مـئة يوم فقط للانتهاء منها، بمعدل ألفيّ كلمة يوميًا، بخلاف الوقت المخصّص لكتابة اليوميات. دوّن الروائي الكبير في دفتره تفاصيل كثيرة تتصل بظروف كتابة الرواية وتطوّرها، والطموحات والإحباطات التي كانت تراوده أثناء الكتابة. كانت اليوميات بمثابة كاميرا دقيقة مثبّتة في غرفة الكتابة، مـزروعة فوق رأسه ترصد مشاعـره الحماسية أحيانًا، والسلبية غالبًا تجاه جودة ما يكتُـب. يكتب شتايتبك في بداية اليوميات:"..هذه هي أطول يوميات دوّنتها في حياتي، وهي في حقيقتها ليست يوميات، بقدر ما هي محاولةٌ لفحص جدوى ساعات العمل الطويلة التي قضيتها في كتابة الرواية." لم تفـتـر حماسة شتاينبك وقت كتابة روايته، بل كان يزيد وقودُها يومًا وراء الآخر، وكأنّ الرجل لم يكن يؤلّف كتابًا، وإنما يخوض سباقًا محـمومًا ضد الـزمن وضد نفسه، ولا مجال للخسارة، فالخسارة – في مُعجمه الشخصي- مرادف الموت، بل ربما يكون الموتّ هـيَّـناً إذا ما قورِن بإخفاقه في إنجاز الكتاب على حدّ تعبيره.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

لم يتوقّف شتاينبِك يومًا عن تقريع نفسه وتوجيه اللوم إليها بشكل وقاسٍ، لـنقرأ الشذرات التالية المُنتقاة من دفتر اليوميات: 31 مايو 1938: .."سأحاول تحرير دفتر يوميات يسجّل أيام عملي في الرواية، والجهد المبذول كلّ يوم، والنجاح الذي تمكنّت- قدر استطاعتي- من إحرازه... أريد معرفة كيف تسير الأمور.." 5 يونيو...أشعر أنّ جهازي العصبي قد استُنزفَ تمامًا... آمل ألا أكون عرضة لانهيار عصبيّ وشيك.." 9 يونيو..لا بد لهذا الكتاب أن يكون جيدًا.. بأيّ ثمن..." 11 يونيو: لا أملك حياةً طويلة، وعلىّ إنجاز الكتاب قبل انقضائها. للمرّة الأولى في حياتي أعمل على كتاب حقيقي.." 8 يوليو: كيف ستبدو الرواية بعد انتهائي منها..؟.. مجرد تساؤل..! 24 أغسطس: أعصابي تكاد تفلت مِنّي..أودّ لو أنني تواريت عن الأنظار.. .أين ذهب النظام الذي وضعته لنفسي..؟هل فقدت السيطرة..؟" 7 سبتمبر: هناك أشياء كثيرة تدفعني نحو الجنون..أخشى أن يتفتّت الكتاب إلى شظايا...ولو حدث ذلك، سأتفتّت أنا أيضًا..ليتني لم آخذ موضوع تأليف الكتاب على محمل الجدّ هكذا، إنه مجرّد كتاب كأي كتابٍ مصيره الموت عمّا قريب، كما سيكون مصيري أيضاً.." 4 أكتوبر: كسلي الشديد يُطوّقني..علىّ كـسـر هذا الطوق..."

تسيرُ يوميات شتاينبِك على هذه الوتيرة؛ عملٌ مستمرّ، حـرقٌ متواصل للأعصاب وللأفكار ولُهاث أنفاس لا ينقطع. يرى دارسو شتابنيِك أنّ كتابة اليوميات بهذا المنهج الصارم لم يكن مَـردّه إدمان العمل، بقدر ما كان رغبة وجودية مُلحّة لإنجاز أهمّ عـمـل قد يؤديه إنسان في حياته، يضيف شتانبك:..."حين أنهي هذا الكتاب لن أهتمّ كثيرًا بمسألة موتي أو حياتي، لأنّ العمل الأساسي الأهمّ أنجزَ بالفعل، وهذا يكفي، ولو انتهيتُ سوف آخذ قسطًا من الراحة، قسطًا قصيرًا لن يطول، أعلم أنّ حياتي قصيرة، وأن علىّ إنجاز كتابٍ آخر قبل أن تنقضي هذه الحياة."

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

يواصل الروائي الأمريكي الكبير جلد ذاته، مُستحثّا إياها لمواصلة العمل بقوله: "... كنتُ أظنّ أني أنجز يوميًا نزرًا يسيرًا جيدًا، وبمجرّد انتهائي من الكتابة، ينتابني شعورٌ بأنّ ما كتبته ليس سوى شيئًا متوسّط القيمة، لم تكن كتابتي يومًا بالجودة التي كنت أحلُم بها، وهو ما يـشـعرني بحزنٍ عميق..أحسّ أنّ قدميَّ تنزلقـان، كما كانت حياتي دائمًا... وها هو هذا كاتبٌ شاب يريد التحدّث إليّ..ماذا تريد..؟ هـه..أن تصير كاتبًا..؟ ماذا يُمكنني أن أخبركَ..؟ لستُ كاتبًا من الأساس حتى أنصحكَ بشيء..أنا على يقين من شيء واحدٍ فقط..وهو أنّ ما كتبته رديء."

في سنة 1950، يرسل شتاينبِك الدفتر إلى صديقه باسكال كوفيتشي، المحرّر الأدبي بدار "فايكنج"، مشفوعًا برسالةٍ يقول فيها: "..طالما راودتني الرغبة في التخلّص من هذا الدفتر، فالأمور التي يضمّها تصف معاناةً شخصية جدًا." في المقدمة الطويلة، والمزوّدة بشروح وحواشٍ بيد المحرّر الأمريكي "روبرت دي موت" ليوميات شتاينبك، والتي صدرَتْ عن دار فايكنج للنشر، بعد وفاته تحت عنوان: أيام العمل: يوميات شتاينبِك (1938 – 1941)، يصف المحرّر اليوميات بأنّها عملٌ مهم ومُلهم للمبدعين والكتّاب الجدد، عصارة حياة وشاهد عيان على مخاضٍ لولادة رواية عظيمة مثل عناقيد الغضب. يعثر قاريء يوميات شتاينبك، ولا سيما المهتمّ بالكتابة الإبداعية، على كـنـزٍ حقيقي، ولكنّه كنز مـحـوط بوحوشٍ شرسة؛ فالكتاب لا ينتمي إلى نوعية كتيّبات "نصائح الكتابة" الوديعة الهادئة. بل على العكس، الكاتب هنا وهو يخاطب نفسه، لا يترفّق بها، بل يـقـسـو عليها، ولا يأخذ بيدها، بل يضرب عليها بقسوة لتواصل الكتابة. مـن ضمن النقاط المهمّة التي كان يؤكدّ عليها شتاينبك دائمًا في رسائله، فكرة الانتظام اليومي في الجلوس إلى المكتب، وفرض نظامٍ قاسٍ على نفسه، حيث يقول: "...في الكتابة، تفرضُ عـادة الجلوس إلى الأوراق نفسها فرضًا، فتمارسُ بذلك تأثيرًا أقوى من تأثير الرغبة أو الإلهام. يتطلّب الأمر قدرًا من ممارسة الحـزم مع النفس، حتي تتحوّل عادةُ كتابة عددٍ محدّد من الكلمات يوميًا إلى نظام ثابت. لا أعـرف عبارة:"سوف أكتبُ حين أشعر بالرغبة في ذلك، فالإنسان إذا ما أعطَى نفسَـه عذرًا بسيطًا للامتناع، فلن ينجز شيئًا على الإطلاق، ربما ثمّة أشخاص يمكنهم العمل بهذه الطريقة، أما أنا فلا. ينبغي لي أن أُردي الكلمات فوقَ الأوراق يوميًا، ولا فـرق عندي إذا كان ما كتبته جيدًا أم رديئًا." تتحول كتابة اليوميات لدى شتاينبك إلى تأديبٍ وتهذيبٍ وإصلاح؛ فهي نوعٌ مـن تأديب النفس لدفع شبح الغرور والتراخي الذي قد يستولي على الكاتب بعد نجاح عملٍ ما، حيث يقول في أحد اليوميات:.."لستُ كاتبًا، طالما خدعتُ نفسي وخدعتُ الأخرين بهذه التسمية. أتمني لو كنت كذلك بالفعل، سوف يدمّرني النجاح..لا يخامرني شكّ في ذلك." وهي في الوقت ذاته تهذيب لروحه الشكّاءة على الدوام من رداءة كتابته، وإصلاحٌ لماكينة إنتاج الأفكار داخل رأسه، التي قد تصدأ من حين لآخر. لم تنقطع عادة تدوين اليوميات بانتهاء شتاينبِك من رواية عناقيد الغضب. فحين بدأ الرجل في كتابة رواية "شرق عدن" سنة 1951، استأنف عادة تحرير اليوميات من جديد. حيث عاودَ شتاينبِك في الفترة من 29 يناير حتى 1 نوفمبر 1951، القيام بتمرينات إحماءٍ يومية قبل بداية يوم العمل، جاءت في شكل رسائل بعث بها إلى صديقه القديم، باسكال كوفيتشي. يقول شتانبِك:"..هذه هي الطريقة التي أحافظ بها على لياقة ذراع رأسي، لأجيد التسديد." كتب شتاينبِك الرسائل على الصفحات اليُسرى من دفتره، تاركًا الصفحات اليُمنى فارغةً ليدوّن فوقها أحداث رواية "شرق عدن". وكأنّ شرق عدن هي الصفحة اليُمني حيث يكتب الرواية، و غرب عدن هي الصفحة اليُسرى حيث يدوّن الرسائل، فيتحوّل الدفـتـر إلى جـنـة عدن؛ وهي جـنـة أرضية مؤقتة، يعرف المؤلّف أنّه مفارِقها يومًا، فـيـحـرّر سـجـلات تحـفـظ ذكرها. صحيحٌ أنّ شتاينبِك كثيرًا ما كان يشكـو قـلّـه حيلته ككاتب، وضعف جودة ما يكتب، إلا أنّه - رغم ذلك- كان يـعُـدّ الكتابة بكل ما تحمله من معاناة، سعادته الحقيقية. يقول في إحدى رسائله التي يتكلّم فيها عن حـزن النهايات: "..لحظة الانتهاء مِن الكتابة هي لحظة حزينة للمؤلّف، هي موتٌ صغير، يُرفع فيه القلم بعد أن يخطّ المؤلّف كلمته الأخيرة، لكنّ الرواية تواصل طريقها، تاركةً المؤلّف خلـف ظهرها، لإنّ الرواية لا تعرف كلمة النهاية."

ـــــــــــــــــــــــــ

  • كاتب من مصر.

الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم