«ابنة الجحيم» تصحب الموت أينما حلّت
«الموت فن... وإنّي أمارسه بإتقان،/ أمارسه حتى يبدو جهنّماً،/ حتى يبدو حقيقة،/ في وسعكم القول إنه دعوتي»، مقولة لـلشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث أُدرِجت في توطئة جزئية «العدم الثاني» من رواية «ابنة الجحيم»، للكاتبة خيريه بوبطان، الصادرة عن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. تبدو بوبطان شديدة التأثر بـ «سيلفيا بلاث حيث تمتطي «الفوق- واقعية» عينها لتصحبنا في عالم يتخبّط بين الموت والحياة، فتعطينا دروساً مرعبة في فلسفتهما، وكأنّي بأسماء الفتاة المسكونة بالموت والذي تنقله كالعدوى لمن تصطحبهم معها في الحلم هي نفسها «بلاث» حين تقول في إحدى قصائدها: «أغمض عيني فيخرُّ الكون ميتاً، أفتح أجفاني فيولد الكون من جديد»، بحيث تبقى أسماء على قيد الحياة فيما يقضي نحبه- بعد يوم، يومين أو بضعة أيام- كل من تصحبه في الحلم نفسه: «هؤلاء الذين رافقوني في أحلامي منذ رحلتي مع شمس أصابتهم جميعاً أنفاسي الملعونة بالموت» (ص153). بقي اهتمام الجميع مسلّطاً على المولودة الحديثة أسماء، في الوقت الذي كانت تقضي فيه أمها نحبها بصمت. ومنذ ذلك الحين يرافقها الشعور بالذنب لأنها لم تتبع أمها إلى القبر، فباتت الحياة هي عقابها.
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">
بعد ذلك بقليل، حلّت آسيا، زوجة الأب، مكان أمها في البيت بسرعة فائقة لم تستطع معها أسماء تقبّل الأمر حتى أنها تشير إلى أن أبيها وآسيا كانا على علاقة قبل موت الأم. تُحكِم آسيا سيطرتها على الأب، يوسف، وتنكّل بأسماء فتجعل من حياتها جحيماً باتت معه «ابنة الجحيم»، دون أن يكون للأب موقف يُذكَر. وتتوقف بوبطان عند هذا التناقض في شخصية الأب بحيث هو رجل ذو مكانة، وقد استطاع أن يرسّخ حضوره في محيطه: «أبي رجل تهابه حتى الأرض التي يمشي عليها» (ص109). ولعل لعنة الموت التي التصقت بصورة أسماء تعود إلى ذلك الظلم الذي ألحقه بها الموت عينه، حين أخذ ثانية المرأة الوحيدة التي أحبتها حيناً ومقتتها حيناً آخر، إلا أنها أشعرتها بوجودها، العمة سالمة. فأسماء لم تصبح عبثاً «ابنة الجحيم»، بل إن الجحيم الذي عانته جعلها لربما تمتلك تلك القدرة الخارقة. أكثر ما يعذّب أسماء ويدمي قلبها، فيجعل علاقتها بأبيها مشوبة باللوم والكره أحياناً، هو أنها تذكر جيداً العذاب الذي عاشته أمها معه فما كان يمكث في البيت، إلى حدّ أنها لم تتعرف إلى صوته حين وُلِدت، فيما تعرفت إلى أصوات أخرى. تمتطي بوبطان السريالية على امتداد صفحات الرواية فتجعل من أسماء الجنين كائناً قادراً على تكوين الانطباعات والشعور بما يحيط به في عالم لم يأتِ إليه بعد. كبرت أسماء المعذّبة قبل أوانها أو أنها لم تكن طفلة يوماً: «يوم ولادتي رأيت وجهي يتغضّن. وكثيراً ما اعتقدت بأني ولدت عجوزاً هرمة في هيئة طفلة صغيرة» (ص121). أما الأب فقد كان، أمام آسيا، رجلاً سلبياً بلا ملامح، غير قادر على أي مواجهة، «فلا هو ميت ولا هو حي». كل هذا العذاب جعل من أسماء ضحية روح شريرة سكنتها فباتت معها متعطشة للأذى. «فجأة شعرت بجسدي ينفصل عني، (...) وبدأت أصعد نحو السماء. وكان صوت يرافقني ويهمس خافتاً في أذني (...)» (ص128). فقد أصبحت لديها قوة خارقة مكنتها من «سحب» الآخرين واصطحابهم معها في فضاء الحلم المرعب، وكانت آسيا ضحيتها الأولى. لم ينقضِ الأمر هنا بل حاولت أن تجعل الجميع يرافقها في هوسها وعذاباتها التي شكلتها تلك الأحلام، فاصطحبت أبيها وحتى شمس أختها، الشخص الوحيد الذي أحبته في الحياة واختبرت معه تلك المشاعر. منذ رحلتها الأخيرة مع شمس، كان كل من يرافقها في الحلم يقضي نحبه، كما سبق وذكرنا. فلم ينجُ إلا ثلاثة أشخاص هم آسيا والأب وشمس و «لكن إلى حين». وعلى رغم كل ذلك لم تلقِ أسماء اللوم على نفسها في ذاك الموت الذي راحت تسببه للآخرين، فهي اعتبرت نفسها ضحية روح شريرة تسكنها. «أعرف أن لا دخل لي. وأنّي عاجزة تماماً أمام القوة الشيطانية التي تعبث بحياتي. ومع ذلك لم أفقد الأمل في أن يغفل القدر عن تلك الحوادث المرعبة لتبقى معلّقة في أرض الكوابيس» (ص160). أرسِلت أسماء إلى المصح، حيث نفاجأ بأن الطبيب النفسي هو من رأته في الحلم الذي تشاطرته مع آسيا وأرعب هذه الأخيرة. وسرعان ما نكتشف أن الطبيب يملك القدرة الشيطانية نفسها التي ورثها عن أبيه، بحيث بنى الأب المصح في سياق التمويه عن حالته هذه، وكان كل من يدخل المصح يخرج منه ميتاً، باستثناء أسماء، التي وبوجودها في المصح تتالت حالات الوفاة وبات الكل يخشاها. ذات يوم فاجأ الأب الجميع بأن حضر لإخراج أسماء من المصح، فغادرت إلى المنزل بصحبته. قضى أخوا أسماء التوأم نحبهما أيضاً مما أصابها بألم شديد، فهامت آسيا على وجهها وتشتت الجميع. إلى أن أصبح الكل في عالم بين الموت والحياة ينتظرون فيه مصيرهم، وعادت أسماء لترى العيون الكثيرة تحدق بها، تلك العيون التي تحدثت عنها بوبطان في بداية الرواية، إلا أنها لم ترَ آسيا وهذا ما جعلها تدرك أنها لم تبلغ الجحيم بعد وفق ما تقول. تجدر الإشارة إلى أن تأثّر بوبطان بـبلاث لا يقتصر على نظرتها إلى الموت والحياة وحسب، بل إلى الصمت والكلام أيضاً، بحيث كانت أسماء قد اختارت أن تعيش في الصمت المطبق قبل ذلك. وكأني بها تسترجع ما قالته سيلفيا عن أن «الكلمات خاوية لا ظلال لها». وسريالية العلاقة بين الموت والحياة التي تخيّم على الرواية، كما ذاك الاختيار الغريب للصمت، كلّها عوامل مشوّقة جعلت من رواية بوبطان مادة دسمة تعجّ بالكثير من المتناقضات، ولعلها من رحم هذا التناقض شيّدت القالب الدرامي لروايتها هذه، فجاءت حافلة بالأسئلة الكبرى، فاسحة في المجال أمام الكثير من الاحتمالات، تاركة- في عالم الرواية اللاواقعي هذا- قارئها تائهاً أمام متاهة الموت والحياة. عن صحيفة الحياة اللندنية http://www.alhayat.com/Articles/25758906/-ابنة-الجحيم--تصحب-الموت-أينما-حلّت
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">
<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">
0 تعليقات