قليلون هم من يستطيعون أن يقرؤوا ما بين السطور، ويتلقوا الرسائل غير المباشرة التي ترسلها النصوص الإبداعية، فالمبدع يكتب نفسه، وهو يسطر إبداعه، مهما اختفت السمات الشخصية، ومهما عجز القارئ المتعجل، وغير المتخصص عن إدراك هذه الملامح والسمات. إن الكلمات، والجمل والعبارات تشف دائما عن سمات وملامح للمبدع، وأحسبها عتبة رئيسة للولوج لعالم المبدع، والاستمتاع أكثر بالإبداع، وما بين أيدينا، رواية للدكتور (مجدي صالح ) لم أسعد بالتعرف إليه إلا من خلال روايته (رجل السماء الأول )، وقد اطلعت على الرواية وهي رواية مبدعة، تسير أحداثها على ثلاثة خطوط متوازية: أولا: خط اجتماعي: تناول أغلب أزمات العالم الثالث: البطالة، الفقر، التفاوت الطبقي ، الأمية ، الفساد المستشري، التخلف الحضاري، التستر بالدين، وحشية رأس المال، والاستعمار في صور خادعة، وسرقة الأعضاء، والتخلف التعليمي والثقافي ،والعنف ضد المرأة، والطفل . وقد ظهر ذلك جليا في: الأحياء العشوائية والتي رمز إليها الكاتب بـ(حي الصفيح) صورة مصغرة للمجتمع الذي يضربة الفقر والتخلف وضياع الحقوق ،ورغم سوداوية الصورة، ففيها الكثير من الواقع الذي نراه ، ونقرأ عنه في الحوادث اليومية ، من يعملون في نيش القمامة ويمثل ذلك (إبراهيم ) الذي يفقد محبوبته (لمياء )بسبب التطرف الديني الذي يعبيء عقلة بالأفكار الخاطئة ، والذي يصبح متطرفا مطلوبا أمنيا ، وظاهرة خطف الأطفال وسرقة أعضائهم ، وظاهرة الاغتصاب والخوف من الإبلاغ عن الجريمة حتى لا تحدث فضيحة للمغتصبة وأهلها ، وظاهرة الشذوذ ، وظاهرة انهيار التعليم ،والتسرب من المدارس ، ووصول الفساد إلى الطبقة العليا في المجتمع التي بيدها كل الصلاحيات ، وعدم وجود سقف لهذا الفساد ، والاتفاق التآمري بين الفساد الداخلى والفساد الخارجي ،واتخاذ الإعلام والدين وسيلة للخداع..

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

ثانيا :الخط البوليسي: وهو خط يسير من بداية الرواية إلى نهايتها ، ويبرز العمل البوليسي السري (المخابراتي ) في صورة شبه مثالية ،رغم أنه يقوم بعمليات قتل خارج إطار القانون وحتى لو كانت ضد الفساد والأشرار ، والعملاء ، ورغم كل المبررات والأعذار التي أفاض في وصفها الكاتب ، فهي حالة خاصة نجح في أن يجعلنا نتعاطف معها ، ونؤيدها ، لأن هناك ظروفاً طارئة يتعرض لها الوطن الذي لم يحدده ، رغم وجود بعض إشارات تشير إليه لكن عدم التصريح أعطى الأحداث دائرة انداحت لتشمل مساحة أكبر مكانيا وزمانيا ،هذا العمل السري ضد الفساد والاختراق الأجنبي للوطن ،والذي يقوم به المخلصون في الأجهزة الأمنية أفرد له مساحة كبيرة ظهر من خلالها أسوأ ما يحدث من تدمير للصحة والأخلاق ،ونهب للثروات ،وانهيارات في الاقتصاد والأخلاق والوطنية، وظهرت شخصية العميد فاروق عميد المخابرات المخلص الذي يكون الخلية السرية المقاومة للفساد واختراق الوطن ،هذا الذكي الذي وضع خطة لاستمرار الخلية بعده ، ونجحت خطته ، واستمرت الخلية في عملها ، وقد كانت التفاصيل الدقيقة لهذة العمليات من أجمل مشاهد الرواية ، وواقعيتها ومناسبتها لتطور الأسلحة ووسائل التنصت ، والتي تشي بخلفية ثقافية عميقة للكاتب في هذا المضمار ،وأحسب أن هذا الرجل الذي برز كبطل هو رجل تحبه السماء ، فكان (رجل السماء الأول) ثالثا : الخط الثالث هو الخط النفسي، وقد أجاد الكاتب في تعميق هذا الخط خصوصا في وصف مأساة (صفاء ) الفتاة اليتيمة التي وقعت في أيدي المتأسلمين ، رباها أحدهم ، ولم يكمل جميله ، وزوجها وهي مازالت طفلة لشخص مغامر في صورة شيخ وإمام لمسجد (مجيب القاف) الذي كنى نفسه بـ (أبو إيمان) والذي لم ينجب من زوجته الأولى فتزوج هذه الطفلة وتلذذ باغتصابها إغتصابا شرعيا ، رسم الكاتب للحالة النفسية لصفاء يدل على ثقافة واسعة في ماساة زواج القاصرات وانتهاك حقوق المرأة ، وقد نجح في جعلنا نتعاطف مع (صفاء ) ونكره (أبو إيمان ) برسم مشاهد مأساوية وكان الكاتب حريصا أن تكون لغته معبرة ،وبعيدة عن الإسفاف مما يحسب له ،واستمرار هذه المآسي إلى الآن بصورة أو بأخرى يضيف للرواية مصداقية حقيقية.

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="3826242480">

هذا الخط النفسي المبدع أضاف عمقا للرواية ، ونلمحه في عدة شخوص أخرى خصوصا مع (لمياء) و(إبراهيم) حب الطفولة البريء والذي حال الفقر المادي والثقافي بين المحبين وبين السعادة . التزمت الرواية اللغة الفصحى السهلة ،وخلت من الأخطاء اللغوية إلا ما ندر ،واكتملت عناصرها من :زمان ومكان وأشخاص وعقدة وحل .. وقد اخترت لرؤيتي السريعة عنوان (شخوص الأزمة ،وأزمة الشخوص ) لأن بالرواية حشد من الأسماء المأزومة التي يمثل كل منها جانبا من الجوانب الحياتية ،أحدهم يبرز أزمة التعليم ،والآخر يبرز أزمة المتأسلمين ،والثالث يبرز الإخلاص في الوطنية ، والرابع يبرز الفساد في رأس السلطة ، والخامس يبرز الفساد العابر للقارات ، وهكذا كل شخصية هي شخصية وأزمة معا ولذلك لا نجد للشخصيات رسما فزيائيا كاملا ،ولا رسما اجتماعيا كاملا بينما الرسم النفسي أحسسنا به .. أما أزمة الأشخاص فهي تتمثل في الفقر والجهل والفساد والخيانة ، ولم يورد الكاتب حلولا مباشرة لهذه الأزمات ، وتركها تحل نفسها بنفسها ،ومن خلال تخيلنا للحلول ، فظل حي الصفيح كما هو ، ورغم إصابة أبو إيمان بالسرطان النادر ، بقيت مشكلة (صفاء) بلا حل، وفي ذلك إبداع فمازالت مشكلة المتأسلمين مستمرة ، رغم ما أصابهم ،وهذا يؤطر لبعد رمزي في الرواية يحتاج لدراسة مستفيضة ، لأن تعدد الأشخاص والأزمات والمعلومات لا تتمكن رؤية سريعة من الإحاطة به . إن (رجل السماء الأول) رواية تستحق الاحتفاء، ومتابعة القراءة والاطلاع ؛ لتلقي الرسائل المباشرة التي تحتشد بها ،والرسائل غير المباشرة التي تكمن بين السطور ، والتي تتخذ عمقا رمزيا يفسر ولا يحل رغم محاولة الكاتب التفسير أحيانا ... ــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ناقد وروائي مصري

الرواية نت

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:300px;height:600px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="1305511616">

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:336px;height:280px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="4898106416">

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم